الدراسات الأنثروبولوجية للرواية وضروراتها

ثقافة 2023/11/14
...

 أحمد الشطري 

تعتبر الدراسات الأنثروبولوجية من بين أهم الدراسات التي تفتح مساحة واسعة لفهم المجتمعات باعتبارها تعنى بدراسة المجتمعات البشرية والثقافات وتطورها. إضافة لشمولها لمجالات فرعية مختلفة. وتقدم لنا الأنثروبولوجيا الثقافية، والتي تركز على دراسة الثقافة البشرية والمعتقدات والممارسات مجالا وعدسة فريدة يمكن من خلالها فحص وفهم تعقيدات المجتمعات البشرية وتفاعلاتها.

باعتبار أن الأدب بمختلف أنواعه هو شكل من أشكال التعبير الفني الذي يعكس التجربة الإنسانية، إذ يتمتع الأدب بالقدرة على إلتقاط جوهر الثقافة وقيمها ومعتقداتها وديناميكياتها الاجتماعية.

 ويقدم لنا تواشج الأنثروبولوجيا والأدب منظورا غنيا ومتعدد الأبعاد في تحليلاته واستنتاجاته التي يمكن من خلالها تكوين صورة ناضجة لطبيعة الإنسان والمجتمع. ومن خلال تطبيق النظريات والمنهجيات الأنثروبولوجية على تحليل الأعمال الأدبية، يمكننا الحصول على فهم أعمق للسياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية التي تقع فيها هذه الأعمال.ولعل من بين أهم المساهمات الرئيسية للأنثروبولوجيا في دراسة الأدب هي تركيزها على النسبية الثقافية. إذ من خلالها نستجلي الطرق الفريدة للثقافات المختلفة  في فهم وتفسير العالم وندرك طبيعة التنوع في التجارب ووجهات النظر الإنسانية. والرواية باعتبارها عالما واسعا ذا إمكانيات فريدة في امتصاص وتمثيل القيم الثقافية والاجتماعية فإن دراستها أنثروبولجيا سيوفر إطارًا قيمًا لاستكشاف الأبعاد الثقافية المضمنة في هذه الأعمال الأدبية، والتعمق في فهم وتحليل تعقيدات الثقافة والهوية والديناميات الاجتماعية التي تنطوي عليها هذه الروايات.إن فحص وتحليل تمثلات الهوية الثقافية في الروايات  بما تتضمنه من مفهوم معقد ومتعدد الأوجه بما فيها من جوانب مختلفة، على صعيد اللغة والدين والعرق والقيم الأخلاقية، ستمنحنا تصورا غنيا وثاقبا للطرق التي يعبر فيها الروائيون عن هوياتهم الثقافية في عالم سريع التغير.

علاوة على ذلك، تسمح لنا الأنثروبولوجيا باستكشاف دور اللغة والسرد في تمثيل البنيات الثقافية للمجتمعات، باعتبار أن اللغة ليست وسيلة تواصل فحسب، بل هي أيضًا حاملة للقيم والمعتقدات والتقاليد الثقافية. ومن خلال دراسة الاختيارات اللغوية وتقنيات السرد التي يستخدمها الروائيون، يمكننا الكشف عن الطرق التي يبنون بها المعنى الثقافي وينقلونه.

ومن خلال تطبيق التحليل الأنثروبولوجي للسرد والخطاب على الرواية، يمكننا أيضاً استكشاف الطرق التي يستخدمها الروائيون في صناعة المبنى الحكائي للرواية واستخدامه كوسيلة للتعبير الثقافي والنقد الاجتماعي. 

كما يمكننا فهم الطرق التي تعكس بها الهياكل السردية وخطوط الحبكة وتطور الشخصيات والأعراف والقيم الثقافية وتحديدها، والكشف عن الافتراضات والأيديولوجيات الثقافية الأساسية المضمنة في تلك الروايات.إن الإمكانيات التعبيرية للرواية وقدرتها الفائقة على امتصاص وتمثيل الواقع بغض النظر عن البنية الحكائية التي تحملها تشكل مجالا مهما ومثمرا لتحليل المفاهيم الأنثروبولوجية مهما حاول المؤلف المراوغة للإفلات من تأثيرات المترسبات الاجتماعية والثقافية التي استقرت في أعماقه والواقع الذي يحيط به؛ إذ أن مثل تلك الترسبات لابد أن تجد لها منفذا سواء عن طريق التنافذ الواعي أم اللاواعي.

غالبا ما يبرز دور الدراسات الأنثروبلوجية في الأدب المحكي باعتباره أكثر صدقية في التعبير عن طبيعة المجتمعات ومرتكزاتها الثقافية والفكرية والاجتماعية، ولكن المتغيرات الحديثة التي جعلت من المدوَّن المرجعية المهيمنة التي تنعكس من خلالها صورة المجتمعات المعاصرة فرضت على تلك الدراسات أن تبحث عن صور لمفاهيمها  في هذا المدون؛ وربما كانت الرواية هي النموذج الأمثل الذي يمتاز بقدرته على امتصاص وتمثل الواقع بمختلف مكوناته.

 في أدبنا العربي لا يبدو أن مثل هذه الدراسات قد نالت الأهمية التي تستحقها سواء لما هو موروث منه أو معاصر، رغم ما لها من أهمية في فهم البنيات الاجتماعية والفكرية المختلفة للمجتمع العربي قديما وحديثا، ولعل جل ما متوفر لنا من متصور لطبيعة المجتمع العربي القديم والذي تعكسه النماذج الموروثة الشعرية منها أو النثرية هو ما رسمته الدراسات الأنثروبولوجية للمستشرقين، ومثل هذه الدراسات رغم أهميتها ومنهجيتها الإجرائية إلا أن ثمة عنصرا مهما قد لا يكون حاضرا فيها بالشكل الذي يجعلها أكثر انطباقا ونفاذا رؤيويا هو تلك الروح الخفية التي لا تستشعر إلا من قبل من هم أكثر تواشجا وتنافذا معها، وقد لا يكون هذا الكلام علميا أو مسندا بمرجعية منهجية، ولكنه لن يكون بعيدا عن الحقيقة بسب أن ثمة فهم خاص لبعض الشفرات الانثروبولوجية التي يحملها النص لا يتوفر إلا لمن هم على صلة حميمية بها، ولعل هذا ما جعل من بعض آراء المستشرقين تحمل نوعا من التطرف في بعض تقريراتها والتي أغرت البعض في تبنيها والتشبث بها رغم مخزونهم المعرفي الكبير، وشهرتهم وثقافتهم العالية، مثل آراء بروكلمان التي بناها على رأي ابن سلام الجمحي في ما نسب من شعر لقوم عاد وغيرهم، والتي عممها على الشعر الجاهلي؛ ليتبناها ويرسخها الدكتور طه حسين في أذهان الكثيرين. 

وكذلك فعل مع آراء ماسنيون وبلاشير في نسبة القرمطية للمتنبي. وبالعودة للرواية العربية نرى أن أهمية الدراسات الأنثروبولوجية هو في ما يمكن أن توفره لنا من رؤية ناضجة لمدى التأثيرات التي ساهمت عمليات التلاقح الثقافي في تغيراته والتي فرضتها العولمة بوسائلها التقنية المتسارعة التطور، سواء على المجتمع وتركيبته الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية، أم التطور الذي شهدته تلك الروايات في جانبها التقني والسردي والموضوعي، سواء بجانبها الإيجابي أم السلبي.