د.جواد الزيدي
صدر حديثاً للدكتور زهير صاحب كتابه الموسوم (ملحمة العراق.. دراسة في فنون عصر فجر الحضارة العراقيَّة) بواقع 458 صفحة من القطع الكبير مع المصورات التي تشرح النصوص النظرية وتقوم بتفسيرها، بوصفه جزءاً من سلسلة مؤلفات التفت إليها خلال السنوات الأخيرة لإضاءة المسكوت عنه في الحضارات القديمة، سواء كانت مصرية، أو إغريقية، أو عراقيَّة.
بيد أنه تم تركيزه بشكلٍ خاصٍ على الحضارة العراقية وقراءة أعمالها الفنية، بما يتساوق والتحولات الاجتماعية والثقافية التي رافقت ذلك.
ويُعد هذا الكتاب نبشاً ثقافياً وجمالياً لحقبة تاريخية مهمة من تاريخ الحضارة العراقية، وهي (فجر الحضارة) التي شغلت الباحثين من آثاريين وجماليين، على الرغم من عدم الكشف عن ثلثي هذه الحضارة، التي يُعتقد أنها تغير الوقائع ووجهات النظر عن فنون تلك الحضارة، وقراءتها بشكل آخر، لو تم اكتشاف الجزء الكبير المخفي في بطون الأرض وتحت المدن المندرسة، التي تحيل إلى مدن ودويلات العراق القديم.
بدأ المؤلف بإهداء كتابه إلى (الشعب العراقي الموقَر)، بوصفه شعباً أنار عتمة الفكر الإنساني عبر العديد من المنجزات البشرية الهائلة، ومن ثم حاول الغور في البدايات الحقيقية المُمهدة إلى جوهر الحضارة بكامل مقارباتها وأجناسها أو فعالياتها الحياتية والثقافية، من خلال منهجه النقدي الذي يتجاوز فيه القراءات الراكدة أو المستنسخة عن رؤى وكشوفات سابقة، بل يتخذ من النقد الثقافي أساساً في محاكمة المعلومة والمنجز الفني في ضوء مقارباته الاجتماعيَّة والأسطوريَّة والثقافيَّة، التي تشكل يقين الشعوب العراقية القديمة في حضارة وادي
الرافدين.
فيبدأ من لحظات القرى الأولى (حسونة، وسامراء، وحلف، والعبيد) وهي الأُسس الرئيسة لفنون وتطلعات العصرين (السومري المُبكر، والسومري الذهبي) ونهاية حقبتهما سنة 2371 ق.م من خلال عدد من التجليات التي تمت مناقشتها في هذا الكتاب، حيث بيوت السكن، والمعابد، والقصور، والقرية والمدينة.
بمعنى أن هذه المتلازمة الرباعية التي وضعها عناوين لمباحث الفصل الثاني تقترن بما تمت الاشارة إليه، والتحولات الكبرى في جوهر الحضارة وبناها الأساسية، وجدل العلاقة القائمة بين بيوت السكن، والمعابد، والقصور في الخلاصات النهائية لسبل السكن والإقامة عبر أكثر من ألف سنة، إذ تتحول بيوت السكن من الكهف إلى الأبنية على سطح الأرض وتتحول من شكلها البسيط إلى القصور التي كشفت عنها الحفريات الآثارية، فضلاً عن إيجاد الفوارق بين سكن القرية وبيوت المدينة، بما تمثله العشوائية في الأولى، والنظم الهندسية في الثانية، وصولاً إلى سياقات مدنية أخرى تتسم بها الحضارة في حقبة زمنية، التي تتماثل فيها مع مقومات المدنية المعاصرة وتفترق بالآليات التي تنتمي لعصرها.
وقد تم التركيز في الفصل الثالث على معطيات الثقافة التي تقف (الكتابة) في بداية مقوماتها.
هذا الاكتشاف الذي ألقى بالثقافة الشفاهية وتناقلها الجزئي بفعل النسيان والحذف، أو التحريف، والتحول إلى عصر مهم هو (عصر التدوين) ، وهذا ما سجل حضوره مع فعاليات وكشوفات انجازية أُخرى ترتبط بشكل مباشر بحياة الناس ويقينهم الأسطوري، أو النظر إلى فكرة الخلود (الحياة والموت) وغيرها بما كشفته بشكل واضح (ملحمة كلكامش)، بوصفها قانوناً للحياة العراقية القديمة
بمختلف اتجاهاتها، هذه المنجزات تجاوزت الخزفيات اعتماداً على الأحجار المختلفة، التي صنع من خلالها (الأختام) سواء كانت منبسطة أو اسطوانية والحديث عن موضوعاتها.
وقد عاد في الفصل الرابع إلى تفصيلات أكثر عند التطرق لموضوعات الآنية الفخارية في ضوء ما تعكسه مشاهد فخاريات القرى والمدن الأولى، التي بدأت من المهام الوظائفية وصولاً إلى الابداع الجمالي عندما دخلت هذه الفخاريات مبدأ التنافس والجمالية، وتقديم قراءته النقدية بخصوص موضاعاتها، التي تم تصنيفها على أساس (المنحوتات الفخارية) التي يتداخل ضمن تصيرها النحت والخزف معاً.
وفي تصنيف أدق تحدث عن (تماثيل النساء الفخارية) بمعزل عن (تماثيل الرجال الفخارية) أو (تماثيل الحيوانات الفخارية).
وعند الوصول إلى موضوع التماثيل تم تصنيفها على أسس مختلفة، من خلال مضامينها التي تُلقي بظلالها على طبيعة الشكل الظاهري لتلك التماثيل التي تعد من خصائص الحضارات القديمة الفنية، بوصف (النحت) الجنس الرئيس في تمثل الحياة الشعبية، أو على الصعيد الثقافي والميثولوجي.
ولذلك كانت العناية بها تشكل خصوصيتها في الاشتغال النقدي، إذ تم تصنيفها من خلال مرموزاتها الأسطورية، التي تبدأ (بتماثيل الرجال المتعبدين، وتماثيل النساء المتعبدات، والتماثيل البرونزية، تماثيل الأطفال، وتماثيل الحيوانات) وعبر هذه التصنيفات تتم الاشارة بشكل خفي إلى المضامين والتحولات التي تتسم بها هذه الحضارة، ومن أهمها تحول الإله من صفته الإنثوية إلى الذكورية، بعد نزول (عشتار) إلى العالم السفلي وصعود (ديموزي)، فضلاً عن التقنيات التي رافقت حركة النحت
( من الطين إلى البرونز).
بيد أن أقصى ما وصله الانجاز الابداعي في النحت هو (المنحوتات البارزة) التي تمثلت في المسلّات، والألواح النذرية، والآنية النذرية، وراية أور، ورؤوس الصولجانات)، التي شكلت مرحلة مهمة من تاريخ تطور الفنون السومرية ووقوعها في أُفق الحداثة الفنية، التي تنبه إليها المؤلف ليفرد لها محوراً خاصاً أسماه (مقتربات الحداثة في الفنون السومرية)، ويقصد بها اللحظة الحداثية والتجديدية الخاصة بفنون سومر التي تجاوزت سابقاتها، وألقت بظلالها على اللاحق منها، وبالامكان أن تتقارب تقنياً ومضمونياً مع ما جاءت النزعة الحداثية
الأوربية.
وقد خصص الفصل السابع والأخير للرسوم الجدارية وابداعات أُخرى، التي شكلت راهناً ابداعياً مضافاً أنذاك، ودخول إجناسية الرسم بموازاة النحت، فضلاً عن مقاربات في الفنون الموسيقية والحلي، وابداعات أُخرى، بوصفها مكمّلاتٍ أساسية لهذه الحضارة التي وصفها الباحثون بأنها (حضارة مكتملة) من خلال التصيرات المعمارية والمدنية والسياسية والثقافية وجزؤها المعبر عن الحياة (الفنون) بمختلف اتجاهاتها وعناوينها، واحتوى الكتاب على عدد كبير من المعادلات البصرية التي تُضيء النص وتشير إلى مصاديقه في ضوء التواؤم بين النص اللغوي والصورة المرئية، التي رافقت تحولات النص وعصره وحقبته الزمنية المحددة.