د.عبدالواحد مشعل
تشير بعض المصادر إلى أن العدالة عند افلاطون فضيلة تأسيس نظام عقلاني قائم على على الأداء السليم الذي يؤدي كل جزء منه دوره من دون تدخل في الاداء الناجح السليم للاجزاء الاخرى من اجل تحقيق المساواة من اجل الصالح العام، كما أنها عند أرسطو (تتمثل في ما هو قانوني وعادل، مع الإنصاف الذي يشمل التوزيعات العادلة وتصحيح ما هو غير عادل)، فبالعدالة تبنى حضارات وأمم.
عندما كنا صغارا في المرحله الابتدائية في إحدى قرى العراق الجميلة، وبجانبي يجلس ابن مدير المدرسة عبدالرحمن، لم نشعر لحظة ونحن رفاق الطفولة ابن الاستاذ خضر السليمان مديرنا، يتميز عنا بشيء ابدا، اذ كان يتلقى العقاب مثلما نتلقاه حينما نقصر في دروسنا أو مشاغبتنا أو عندما يخبر عنا المراقب المعين من السيد المدير سراً في متابعتنا بعد الدوام، هل كنا نلهو باللعب ام نحضر دروسنا، حتى يأتي اليوم التالي، وإذا بالمدير يدعونا إلى الاصطفاف، وبيده اليسرى قائمة بأسماء من تم رصدهم وهم يلهون في ثنايا القرية، وبيده اليمنى العصا، وحين يذيع الأسماء يكون بينها ابنه فيكون العقاب بالتساوي، فالقرية صغيرة ويسهل على ذلك المراقب السري أن يجوب طرقها وساحتها مشياً على اقدامه بين الفينة والفنية.
فلم يكن المعلم موظفا فحسب إنما كان ابا ومسؤولا تربويا هدفه تخريج جيل مزود بالمعرفة ومكلل سعيه بالنجاح على وفق الاستحقاق وعلى اساس تقدير الفروق الفردية بين تلميذ وآخر مهما كان هذا التلميذ غنياً ام فقيراً، ابن معلم ام لا، وقد القى المعلمون على عاتقهم امانة اخلاقية ومبدئية، فكانوا مثقفين ومخازن معلومات متنوعة، حتى صار من الممكن الاطلاق على بعضهم بالموسوعيين -ان صح التعبير- وكان اهل التلاميذ مطمئنين ومسلّمين ابنائهم إلى مدارس تزودهم بالعلم والاخلاق، وهكذا كنا ونحن صغار نشعر أن المدرسة مكان يوجد من حرص على تهذيب سلوكهم ومتابعتهم في صغار الامور وكبيرها، فكان مديرنا الملا خضر يمثل رمزا يجد التلاميذ ابا ومعلما عادلا يعاقب من يخطئ، ويكرّم من يحقق تفوقا في دورسه ويكون منضبطا في سلوكه، وقد كانت هذه السياسة تمثل حالة من عنصر الضبط الاجتماعي ومثالا حيا للجانب التربوي، فلم يكن هناك امتياز لابن المدير أو ابن المعلم، وهو امر يبدو غريبا في مجتمع تقليدي تغلب فيه القرابة بصفتها عنصرا اساسيا في شكل العلاقات الاجتماعية السائدة، لكن كان هناك تفهم لكل ما يجري لابنائهم في المدرسة، كما أنهم يدركون أن العلاقة داخل المدرسة شكل مختلف تماما ما اعتاد عليه ابناء القرية في علاقاتهم الاجتماعية العامة، فالعمل الرسمي الذي كان يطبق في معظم المدارس ومنها مدرستنا يأخذ طريقا بصفته سياقا مقدرا وسائدا منفصلا تماما عما هو خارج المدرسة.
لعل الغاية من سرد هذه القصة يندرج ضمن ما تعيشه مدارسنا اليوم من حالة من الاختلاف عما كان سائدا، ولعل من اهم اسباب هذا الاختلاف الظروف التي عاشها المجتمع العراقي من ازمات وحروب وحصار فكك منظومة القيم التربوية والتعليمية على الرغم من وجود مدارس كثيرة تمكنت من الصمود، وكان مديروها ومعلموها يمارسون دورهم التربوي والتعلمي بشكل ينسجم مع اخلاق المهنة، ومع هذا فما نشاهده اليوم من بعض الظواهر السائدة في كثير من المدارس بسبب اكتظاظ التلاميذ داخل الصف، وعدم توفر المستلزمات الاساسية، فضلا عن تغير نمط شخصية المعلم عن النمط الذي كان في زماننا الاول، فالمعلم يعيش ازماته الخاصة ويجري وراء توفير معيشة اسرته، كما أن عملية التعامل لم تعد تاخذ تلك العدالة التي كنا نعيش تفاصيلها، فبنت المعلمة يجب أن تأخذ الدرجات العالية، وابن المدير ينظر اليه بمعيار جديد، وهكذا اخذت الحياة تضغط على الانسان بشكل عام، والمعلم بشكل خاص، ما اثر ذلك على مجريات العمل المهني والتربوي، ووفقا لهذا الوصف ينبغي مراجعة الواقع التعليمي في المراحل الاساسية مراجعة نقدية لمعالجة الخلل، فالاعداد الجيد والاهتمام بالجانب المعرفي ينبغي أن ياخذ الاولوية من قبل وزارة التربية، فالمسالة اليوم تفرض على اصحاب القرار أن يشجعوا التلاميذ على اكتساب المعرفة وليس الاستعانة بالملخصات للدروس، فعملية النهضة بالتعليم تتطلب اجراء دراسات العلمية عن واقع التعليم الاساسي واصلاحه، واذا تم ذلك فستكون المراحل اللاحقة من الدراسة تاخذ طريقها بشكل سليم مع التاكيد على استمرار عملية الاصلاح على وفق الطرق العلمية والتربوية الحديثة بما يضمن نشأة جيل مشبع بالمعرفة والقيم التربوية،لا سيما ونحن نواجه اليوم تحديات وسائل الاتصال الحديثة التي اصبحت في متناول التلاميذ في مراحل الدراسة كافة، وهي مهمة ليست بالسهلة، ولكن ليس من الصعوبة بمكان التصدي لاثارها النفسية والاجتماعية على سلوك التلاميذ، اذا ما تمكنا من توظيف الطرق الحديثة بالتعليم توظيفا واعيا ومسؤولا، ولعل القيام بذلك الجهد العلمي والتربوي يعيد الينا رمزية ودلالة عدالة مديرنا الملا خضر وحرص المعلمين على تلاميذهم، بطريقة جيدة تتلاءم مع التغيرات الثقافية التي يعيشها مجتمعناـ فمع توفر مستلزمات الحياة العصرية، يمكن توظيفها وتطويعها بشكل جيد بما ينسجم مع قيم مجتمعنا الاخلاقية وعلى وفق ما يستجد من طرق ومناهج حديثة واذا ما تحقق ذلك سيكون مستقبل تعليمنا مزدهرا، معرفةً وتربيةً وعدالةً.