الحرب النفسیَّة على غزة

منصة 2023/11/23
...

 بيلين فرنانديز
 ترجمة: آمال أريحي

في العام 2014، تسع سنوات قبل العملیَّة المدمرة الحالیَّة لإسرائيل في قطاع غزة، قام الجيش الإسرائيلي بما أسماه "عملیَّة حمایة الغلاف" في القطاع. استمرت العملیَّة لمدة 51 يوما وأسفرت عن مقتل 2251 فلسطينيا، من بينهم 551 طفلا.
ليس بعيدًا عن عملیَّة عام 2014، أرسل لي صديقي وهو عالم النفس في برشلونة، بعض الصور التي حصل عليها من زميلٍ له في غزة. كانت الصور عبارة عن رسومٍ للأطفال في بلدة خزاعة في محافظة خان يونس جنوب غزة، بالقرب من الحدود مع إسرائيل.
عند النظرة الأولى، تبدو العديد منها كرسومٍ لأطفال عاديین، حيث تظهر منازل ملونة، وجوه مبتسمة، عشب، غيوم، شمس،.. الخ. وبشکلٍ مغاير لهذا النمط، تصور الرسوم مشهدًا ينطوي على مشكلة واضحة: الصواريخ والدبابات والجرافات والطائرات، التي تحتل مکانة رئيسة في عقول الفنانين الشباب.
على سبيل المثال، أحد الرسوم عبارة عن صاروخٍ ينزل من السماء وهو على وشك الاصطدام بمنزلٍ برتقالي، له سطح باللون الأحمر وعلم فلسطين يرفرف من فوقه.
في رسمة أخرى، صواريخ تطلقها طائرة متجهة نحو مجموعة من الأشخاص وهم يبتسمون. تعكسُ الأعمال الفنیَّة نظرة على العالم بعيون أطفال فلسطين، وتقدم أيضاً دليلاً على الحرب النفسیَّة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة.
الأطفال الذين رسموا تلك الرسوم هم الآن فی سن المراهقة - بشرط أنْ يكونوا قد نجوا من آخر جولة من المجازر التي يقوم بها الإسرائيليون في غزة، والتي قتلت أكثر من 10000 شخص بما في ذلك أكثر من 4800 طفل. لا يوجد مكانٌ آمنٌ في القطاع بأكمله، حيث تستهدف إسرائيل المنازل والمدارس والمستشفيات بلا هوادة. أقرَّ ضباط الجيش الإسرائيلي بالتخلي عن دعاياتهم بشأن الدقة "الجراحیَّة" في استهدافاتهم.
من الواضح أنَّ تحويل الحياة اليومیَّة في غزة إلى كابوسٍ فعلی، يعني حتى بعد توقف القنابل الإسرائيلیَّة، ستظل الصدمة النفسیَّة هي سیدة الموقف.
وربما بدرجة أكبر مما كانت عليه بالفعل.
قبل خمس سنوات، أفاد المجلس النرويجي لللاجئين، عن "مشكلات صحیَّة نفسیَّة شديدة وتدهور نفسي" في صفوف شباب غزة. وفي العام 2020، تمَّ اكتشاف أنَّ غالبیَّة الأطفال في الحصار يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة.
وفي أيار 2020، في حلقة متواصلة من مسلسل المفارقات الوحشیَّة لقي اثنا عشر طفلاً حتفهم ضمن أكثر من 60 قتيلًا من الأطفال في الغارات الجویَّة الإسرائيلیَّة على غزة في أسبوعٍ واحدٍ وهم يشاركون في برنامجٍ نفسي اجتماعي لضحايا صدمات الحرب من إعداد المجلس النرويجي للاجئين.
بالإضافة إلى المذبحة الجسدیَّة، يبدو أنَّ هناك جهداً حثیثاً لإلحاق الدمار النفسي في غزة أيضًا.
ووفقًا لقاموس ميريام ويبستر، فإنَّ "psyops" هو اسم جمع يشير إلى "العمليات العسكریَّة الموجهة عادة نحو التأثير في الحالة النفسیَّة للعدو من خلال وسائل غير عدائیَّة (مثل توزيع المنشورات الإعلانیَّة). تقوم إسرائيل بعملیَّة إسقاط المنشورات الإعلانیَّة من الطائرات على السكان المدنيين في فلسطين ولبنان، في كثيرٍ من الأحيان مع تعليمات لإخلاء منطقة محددة.
في الوقت الحاضر، يمكن إجراء هذا بسهولة عن طريق الهاتف الخلوي .ومع ذلك، نظرًا لعادة إسرائيل في قصف الناس أثناء الامتثال لأوامر الإخلاء، فإنَّ كل هذا غیر مؤهل حقًا بأنْ يكون من "الوسائل غير القتالیَّة".
في حالة قطاع غزة المحاصر، والذي لا توجد فيه حاليًا أیَّة طرق للإجلاء، يصبح هذا النوع من الحرب النفسیَّة أكثر إحباطًا على المستوى العقلي.
طبعاً ليس هنالك شيءٌ يطمئن نفسيًا بشأن العيش محصورًا في أرضٍ مزدحمة حتى في الأوقات التي لا تقوم فيها إسرائيل بشن حرب شاملة. في العام 2005، عام انسحاب إسرائيل من غزة وهو لم يحدث بالفعل، أدان الراحل الدكتور اياد السراج- مؤسس برنامج الصحة النفسیَّة المجتمعیَّة في غزة – إسرائيل لسعیها إلى إحداث "العجز بین الفلسطينيين في غزة بغرض
جعل السكان كلهم أسرى للخوف والشلل".
في الفيلم الوثائقي: "عقل غزة" لعام 2009، اتهم السراج الاحتلال الإسرائيلي لمحاولة تفکیك المجتمع في قطاع غزة وأيضاً خلق ''مشكلات جيلیَّة'' نتيجة لـ "الصدمة المتراكمة على مرّ السنين". وتفاقمت أزمة الصحة العقلیَّة على مدى السنوات التالیة، مع زيادة معدلات الاكتئاب والانتحار.
لا يمكن المبالغة في تقدير الآثار النفسیَّة المترتبة على الحصار الإسرائيلي غير القانوني على غزة، الذي لا يزال يستمر منذ 17 عامًا وفي مساهمته في البطالة والفقر المدمرین، وهما عاملان یؤديان بدورهما إلى تفاقم القلق والاكتئاب بشکلٍ عام.
إنَّ ما يصاحب ذلك من نقصٍ في الغذاء والماء والكهرباء في غزة لا يؤدي إلا إلى تفاقم مشاعر العجز ويحول دون الاستقرار النفسي. في الوقت ذاته، تسببت إسرائيل في إحداث صدمة نفسیَّة كبيرة لشعب غزة وتحظر استيراد الأدویة المهمَّة بما في ذلك الأدویة النفسیَّة، ناهيك عمَّا تقوم به إسرائيل من قصف للمستشفيات وغيرها من البِنْیة التحتیَّة للرعایة الصحیَّة في قطاع غزة.
ولكنْ ما هو المستقبل الذي ينتظر غزة في نهایة المطاف، عندما تصرُّ إسرائيل على قتل وتدمیر عقول أطفالها؟
في العام 2018، عندما قتل الجيش الإسرائيلي مئات الفلسطينيين في غزة، نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريراً عن كارثة الصحیَّة النفسیَّة في القطاع، وسلطت الضوء على قضیَّة محمد أيوب البالغ من العمر 14 عامًا.
وكما أشارت الصحيفة، فقد عاش أيوب، في سنٍ مبكرة، على الأقل ثلاث حروب، الأمر الذي أصابه بصدمة شديدة.
وعلى إثر قرار الولايات المتحدة تحويل سفارتها إلى القدس في العام عينه، كان أيوب "غاضباً"، وفقًا للمقال، وبعد أنْ أخبر أمه بأنه مستعد للتضحیة بحياته من أجل المدينة، "انطلق إلى التظاهرة" على الحدود بين غزة وإسرائيل في 20 نيسان، حيث "أطلق قناصٌ إسرائيليٌ النار على رأسه".
الآن بعد أنْ وصل التواطؤ الأميركي في الدمار الجسدي والنفسي في غزة إلى مستوى إبادة جماعیَّة بشکلٍ واضحٍ - حيث تقوم القوات الإسرائيلیَّة بمحو أسرٍ فلسطينیَّة كاملة بشكلٍ ممنهج - فمن المرجح أنْ يسلك المزيد من الشباب الفلسطينيين طريق الاستشهاد.
وبينما تستمر إسرائيل في القیام بموجة قتل غير مسبوقة لا يمكن وصفها إلا بأنها ذهانیَّة تماماً، يبقى السؤال ماذا سيحصل لأطفال غزة من الآن فصاعدًا؟
هل ستظل هناك بيوتٌ وشمسٌ؟
أم سيكون هناك فقط دمٌ وركام؟

موقع الجزيرة دوت كوم