د. نصير جابر
في أوّل لقاء مع من تحبّ، لا بدّ أن تكون خجلا مرتبكا خائفا، لكنّني كنت راكضا، أعدو بسرعة البرق حاملا حقيبتي على ظهري لأصل في الوقت المناسب قبل أن يدق جرس الدرس الأول، كنتِ تنسلين من راديو كبير موضوع على رفّ خشبي تجاوره مجموعة من الأشرطة لمطربين كثير ليس بينهم أنت، هكذا سمعتكِ للمرة الأولى، قبل أن أعي ماذا يعني الغناء، وماذا يعني الصوت الفضي الذي تمتلكينه وهو يؤدي أصعب المقامات بركوز نغمي قلّ نظيره.
تكرّر الأمر مرة ثانية، كنت أجدُ أهلي غير عابئين بك، فلا أنت داخل حسن ولا ناصر حكيم، ولا سليمة مراد ولا حمدية صالح، أنت غريبة عنهم وعن بيئتهم وذوقهم، ولكنك مفروضة عليهم في برامج شحيحة فهم ينتظرون الأخبار.. لكنني وأنا الصبي الخائف من امتحان الرياضيات، وتحضير الفيزياء الصعب، أحسست بشيء يشبه خيط الحرير يخيط صوتك إلى روحي. ثمّة يد تنسج ببراعة ذلك الأمر، في الصف لم يكن هناك من أسأله عن تلك المطربة التي تغيّر طعم الصباحات في قريتنا النائية، حيث النخيل والصفصاف أكثر من البشر، لكنني في صباح آخر سمعت المذيع يقول فيروز، قالها بألفة محبّبة وصوت جهوري (الآن أتركم مع مجموعة من أغاني فيروز) هو يتركنا، لا يخاطب شخصا بعمر معين، ولا من مكان محدّد، يتركها لنا، أبناء الريف الذين نذوب بأطوار الغناء الريفي، ويتركها لأبناء البادية ولأبناء المدن، وأبناء البحار والفيافي.
بعد أسبوع ذهبت إلى المعجم لأبحث عنك، فيروز، معنى في تقليب كلمة، حجر، لونه أزرق.. بعد أيام صار استيقاظي اليومي المتكاسل الصعب من الفراش مختلفا، كنت أسابق الوقت لأسمعك. أفرح جدا وأنا أجد المذيع يقول (أترككم) حفظت أولى الأغاني، وصرت أردّدها متباهيا بين زملائي، استهجن بعضهم، وسخر بعض آخر، ولكنّني بثقة صبي غارق بك، قلت لهم بكلمات حادة:
(كلّكم عندما تكبرون ستسمعونها وتحبونها جدا) أعترف إنّني كنت غير دقيق في هذه الجملة القدرية، لأنّ بعض زملائي لم يكبر فقد أكتله الحروب، أو الأمراض وحوادث الغرق التي تكثر في ريفنا البعيد، هم يشبهون تماما ذلك الطفل (شادي) الذي ظل بعيدا يلهو في أحراش الغابة، معلّبا عن الزمن ودورانه. لا يعود مع موسم، ولا مع ريح باردة، أو غروب موحش.
بعدها كثيرا ما تأملت ملامحك، ملامحك الصارمة، عيونك الواسعة، وفمك الصغير، تعابيره وهي يلفظ تلك الكلمات التي سرعان ما تلتصق في شغاف قلبي، وتجرأت مرّة وقصصت صورتك من إحدى المجلات اللبنانية التي تصلنا وألصقتها في كتاب، حبيبة سريّة، أبوح لها بلواعج قلب مجنون يرى في الشعر وأغانيها جزءا من حياة يجب أن تعاش، حياة كان وجودك فيها ضرورة لا غنى عنها من أجل أن نعي جمالا آخر وألقا آخر.
وحينما صرت أنت والقهوة وبعض العبارات الرنانة، من لوازم إشهار ثقافي زائف يدعيه من يدعي الثقافة والأدب والرقي، صمتُ، لم أعد أقول ولا أتذرع بصوتك، لا أقول لأحد إنني مولع بك حد الوله، هم يدعونك ظنا منهم إنك (لازمة) لا بدّ منها، وأنا أحبك مذ كنت طفلا يركض خلف الأبقار في مراعي معشوشبة بالجت والبرسيم.
في الكراجات الضاجة بالفوضى كنت تنظمين المرور، إيقاع يمسك الحياة من تلابيبها، ويسافر مع الناس إلى مدنهم وقراهم وأحلامهم، حضور مختلف.
هل أنسى ذلك اليوم عندما غفل أحدهم لينساب صوتك في ساحة العرضات، جفل الجنود وتسمرت أعينهم على تلك السماعة البعيد، تغير الفضاء بسرعة البرق، لم يعد لون «الخاكي» الكالح كالحا، ولا المعسكر الموحش موحشا، ولا الجوع الذي يحرق بطوننا جوعا.
الآن وأنا على مشارف الخمسين أحملك معي، لصباحات قابلة جديدة، صباحات لها طعم صوتك وصفاء عربك الساحرة وعمق معانيك.