سؤال الكون في اللغة

ثقافة 2023/11/26
...

 عبد الغفار العطوي 

نحن البشر على مختلف ميولنا الفردي والجماعيّ، ومستوياتنا المتعددة المختلفة، وألواننا الجسدية والنفسيّة، قد مر بتفكيرنا سؤال واحد عن المسمى الذي أطلقنا عليه (الكون) إله خالق أم خلق وحده؟ وهو السؤال العميق الذي سندرك بأنه يحمل مغالطة كبرى نتيجة قيامه على أثر سلسلة معقدة من وسائل الاتصال لدى الإنسان مع العالم الخارجي تتكون من الوعي، والطبيعة واللغة، تجتمع معاً للاشتراك للدفع في كون هذا السؤال منشأه هو تفكيرنا قبل كل مبدأ.

إذ وضعنا لهذا السؤال قواعد الإجابة بالاتفاق المسبق أو الاعتباطي بعد استتباب حلقة الاتصال ومرحلة الفصل والتحديد، عندما يكون انطلاقه تفكيرنا، وأن الوعي (وهو أول خطوة في هذا الاتجاه نحوه) بهذا السؤال، وإدراك سيرورته، ومن ثم التفكر به باعتباره سؤالاً وجيهاً ينتصب أمامنا في الأصل اللغة التي اخترعها الإنسان (سنتجاوز أطروحة من يخالف ذلك في أن منشأ اللغة رباني كما تذهب الديانات؟) من امكانياته الطبيعية وتطورت عبر مئات السنين. ولولا تلك اللغة لم يتفجر في داخلنا سؤال الوجود الخالد عن الكون وعن خالقه، لكن هذا لا يعني أن السؤال هذا جاء من رحم اللغة، إنما التعقيد  الحادث في عملية التفكر التي قادت في السؤال تتجه إلى الوعي الذي يعي العالم الخارجي تزامناً مع تطور اللغة، وانتقالها من تسمية الأشياء إزاء اللغة (الأسماء أولا) نحو الوعي عبر الإدراك لوعيه. أي الوعي بأن إدراك الوعي المستقل عن الوعي القائم على الإدراك في عملية الفصل والتحديد هو الذي  يؤدي للتفكير المستقل عن اللغة، فالتفكير هو تفكير في معنى التفكر، وقد لا يحتاج إلى وسيلة تعبير مثل اللغة. لهذا لا يمكننا أن نقدم الكون كمعرفة مستقلة عن تصورنا له من دون قابلية وعينا بأنّ هناك كوناً يقف خلفه صانع إلا وفق فهمنا أن الكون، ومن ورائه قوى موجودة أو مبدعة بالضرورة نطلق عليها الخالق عبر اللغة! فما هي اللغة؟ 

في تصورنا أنّ ثمة علاقة بين الكون وبين اللغة بحثتها الفلسفة في فلسفة اللغة، وأن الفلسفة قد درست  اللغة والمعنى، كي نعي ما هي تمام العلاقة بين الكون واللغة، لأن من مهمات الفلسفة تبيان حقيقة تصورنا، فأسبقية معرفة اللغة على معرفة الكون تدل على كونيتها، وانصباب الكون على تكامل منطوق اللغة وفق تطورها المعرفي رغم أنهما من نظام خلق واحد، لأنه على ما يبدو أن اللغة هي إذا جزء من شمولية الخلق، بل من ضرورته، والعلاقة بينهما لا تفسر إلا وفق منظومة مفادها التعاون بين المفاهيم اللغوية التي تنتجها اللغة، وأوعية الكون التي هي مفاهيم  مساعدة أيضاً في المعرفة كالوعي والادراك والتفكر والفكر الخ. 

فإذا تخطينا المعقل الأول للغة كما بحثته  فلسفة اللغة، منذ الجهود العظيمة التي قام بها اللغويون المعاصرون بداية القرن العشرين أمثال فرديناند دو سوسير، ورومان جاكبسون، ولويس هيلمسيلف، وكذلك نعوم جومسكي و إمبرتو إيكو في معالجة العلاقة بين اللغة والتفكير الذي يعتقد فلاسفة اللغة إن هناك عقبة في ربطهما في علاقة الإدراك التام الذي يصل إلى أن اللغة تختفي في أثناء عملية الوعي الذي يسفر فيه الذهن وحده عن استحصال المعرفة  الخاصة للكون. وهي نقطة مهمة يتفق فيها علماء الديانات في صفة (النبي) مع اللغويين، من كونه قادراً وحده في تجربة فردية في سبر الكون؛ فالنبي يستلهم تجربته الفردية في مفهوم (الوحي) ليغير من الوعي الذي يؤدي نحو الادراك، بشرط التجربة الفردية، ثم يقوم بتعميمها على الآخرين من دون المساعدة للغة في عملية التفكير، مثلما قام العالم الفلكي كوبرنيكوس بتجربته الفردية بإبطال نظرية مركزية الأرض واستبدالها بنظرية مركزية الشمس، لأن التفكير المنطقة البيضاء بين الوعي الإنساني العام، والإدراك الإنساني مدعم بشروط الانتقال من الوعي إلى الإدراك، فإذا كانت اللغة التي درسها سوسير في علم اللغة العام من خلال الاعتباطية بوصفها فرضية لغوية، وكذلك مهد جاكوبسن في الاتجاهات الأساسية في علم اللغة للعلاقة بينها والمعنى، فإن اللغة ستبدو من أهم الاكتشافات البشرية على الأرض قاطبة يمكن للإنسان أن يعدها في وجوده لازمة ضرورة. يكفي أن تتعلق من جهة بأنها هي من يصوغ التصورات ويقدمها لنا كحقائق، أو يقدم في الحقيقة فهماً ذاتياً، ومن جهة ثانية بأن صياغاتها تتأثر بكيفية استخدامنا لها.

 وإذا كانت اللغة قد نشأت من خلال العلاقة بينها والمعنى في التعرف على الأشياء في العالم الخارجي، فإن أمبرتو إيكو في (السيمياء وفلسفة اللغة) قد كان محقاً في دراستها من خلال العلامة والاستدلال، باعتبارها نمطاً علاماتياً قادت الإنسان في مسار التطور. 

لذا لا نستغرب في تعميق الدراسات القائمة على فهم العلاقة بين اللغة والكون، في مسألة التعريف، واعتبارها فلسفة في الجسد (جورج لايكوف، ومارك جونسون) فاللغة التي ترتبط بمفهوم الذهن من خلال طرف خفي غير معين تمثل آلية منفصلة في محاولة فهمه بوصفها تحدياً له، متأثرة بالبيئة من دون خسارة ثباتها كمنظومة مستقلة بذاتها، فالارتباط بين التفكير والفكرة بعد ذلك يجعلنا ندرك عجز اللغة.   

في إيضاح أن التفكير لا يمكنه توليد الفكرة، بل التفكر هو الذي يفعلها، بينما التفكير هو الذي ينقل الفكرة كمعنى إلى الآخرين، فنحن لا نتفكر، نحن نفكر، إن تعريفنا  لهذه العملية  يعاني، إضافة إلى مشكلة إقحام اللغة عليه بشكل تعسفي، من عدم الدقة  في تحديد دور الإرادة  فيه. أن الحساسية  القائمة في تفسير العلاقة بين الكون واللغة تصل بنا إلى ما بعد الوعي والإدراك، حيث تظل اللغة غير قادرة على لمس حدود هي في الأصل لا حدود لها، هناك حقيقة تختفي وراء الواقع الذي يعيه الكائن الحي، ربما تفشل اللغة في تسميتها باعتبارها لا معنى لها في الوعي، لأن تعريفها يبدو صعباً وشائكاً.