رندة حلوم
العمق الوجودي في فكر الفنانة التشكيلية العراقية ميسون الرّبيعي لوحات طغى فيها وجه المرأة على ثلاثيّة الإنسان والزمان والمكان. لقد خرجت الربيعي من العراق إلى مغتربها في إيطاليا، لكن العراق لم يخرج منها، إذ رسمته في الوجوه، والزهور، والجرار، والحلي، والنساء، والأطفال،
والرّجال، والمدن..الخ.
ومن تفاصيل الوطن الأم، كانت الفنانة مثل طفلة متعلقة بتلابيب الحنين، حيث بيئتها التي تحتضنها راسخة في الشعور، واللاشعور تغني الإبداع عبر لوحات أيقونية لا يملّ الناظر من سحر تعبيرها.
لوحات الرّبيعي هي قصائد، إذا أردت أن تضع لها عنواناً عريضاً سيكون مواويل عراقية في وجوه النّساء، وزوايا البيوت، أما العناوين الفرعية فقد تتنوع بين المدن والقرى والأسرة.
إن أكثر ما يشدّ المتلقي إلى فن الرّبيعي، هو ذلك البعد الإنساني الذي لم يغادر أيّ تفصيل في فضاء تشكيلها الحرّ، فقد اتجهت الفنانة إلى البساطة في التّعبير، وحتّى في الرّمز، لكنّها كانت عميقة في مشاعرها التي حمّلتها لشخوص تشكيلاتها، لا سيّما وجوه النّساء، لأن نساء تشكيل الرّبيعي هنّ عراقيّات في الانتماء وفي الزّي الشّعبي، والحلي، والملامح التي تفيض جمالاً كبلاد الرّافدين.. هن عمّة ميسون، وجدّتها، وجارتها، وخالتها، ونساء الحي الشّعبي، والعراق كلّه.
في أغلب اللّوحات كانت المرأة تقوم بممارسة نشاطها اليومي، من حياكة، وطهي، والذّهاب إلى السّوق، إذ طعّمت الفنانة اللّوحة بتشكيلات حيوانيّة، ونباتيّة، لتكتمل تفاصيل الحي الشعبي والتّراث، وزعت العيون والتمائم والأحراز مستقية هذا التّفصيل من الميثولوجيا الحيّة لبلاد ما بين النهرين.
عندما رسمت الرّبيعي المرأة اهتمّت بالشّكل، فكانت ذات وجه يفيض جمالاً اعتمدت العيون الكبيرة، والفم المنمنم تتشابه الوجوه لكنها تختلف في الحالات الإنسانية التي تعبر عنها، وكان للتراث المساحة الأكبر في الصّورة والفكرة، من خلال الأزياء التراثية، والحلي والأدوات المستخدمة في الحياة اليومية في الريف العراقي، والبلدات، والمدن، متجهةً إلى أقصى درجات البساطة، حتى في تكوين الوجه كانت الملامح، هي ملامح السّهل الممتنع، أمّا الألوان فقد كانت ألوان الرّمال، والسّماء والتّراب، والماء، والأماسي بليلها الهادئ، ولأنّ ميسون ابنة البيئة، فقد أحيت البيئة في لوحاتها، وكان الحنين إلى الوطن باللّون، والخط والشعور.
المستند الشعبي لدى الربيعي كان في الفكر وفي الخرافة، وهي لم تستند إلى الموروث فحسب، بل ورّثته وصدرته إلى العالم، الفنانة العراقية المغتربة في إيطاليا لسنوات طويلة، هي ابنة الحرب، وصرخات الثكالى، والأرامل، والأطفال كانت ملهماً لها في تسييد القلق الإنساني، وبروزه أمام المتلقف لفكر وصورة الفنانة ذات البصمة الجمالية الرّمزية الواقعية الواضحة المطعمة بالتشكيلات الهندسيّة المغرية في تفاصيلها، وقد كان هذا واضحاً في شغل ثوب المرأة أو حليّها أو حتى تلك العيون الكبيرة.. لقد اتجهت الفنانة إلى العمق والبساطة في إيصال تشكيلها إلى العالم، فوصل شفافاً عابراً للذات والحدود.