مسلسل {الماروت} السقوط في دوَّامة الجريمة والعنف
رضا المحمداوي
بدءاً من عتبة عنوانه يضعنا مسلسل «الماروت» لمؤلفتهِ رسل جواد، ومخرجه مهدي طالب، في إشكالية العنوان والمضمون وعلاقته بالواقع والمجتمع العراقي، فضلاً عن إشكالية الجدوى من إنتاجه من قبل لجنة دعم الدراما، وحتى عرضه على شاشة قناة العراقية، لا يخرج عن تلك الإشكالية وأسئلتها المحرجة.
تمَّ اقتطاع «الماروت» كعنوان من اسم الملكين طهاروت وماروت» اللذين ذكرهما الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز مرة واحدة في سورة (البقرة)، وقد اسقط المسلسل اسم «هاروت»، وأبقى على (ماروت) وأضاف إليه التعريف بالألف واللام.. ولا أريد الخوض في التفاسير الإسلامية، التي وردتْ في هذا الموضع من الآية الكريمة، ولكني أتوقف نقدياً للإشارة إلى عدم وجود أيّة دلالة لاستخدام هذا الاسم «الماروت» كعنوان لمسلسل درامي يخوض في عوالم الجريمة والعنف والقتل والاتجار بالأعضاء البشرية، وترويج المخدرات، وعمليات التصفية الجسدية، وتناثر الجثث وسط مشاهد الدماء، وصولا إلى القصف باستخدام الطائرة المسيرة!
أمَّا عن استخدام الاسم «ماروت» للدلالة على السحر والشعوذة، فإنَّ المسلسل لمْ يتعرض لهذا الجانب سوى في خط درامي واحد جاء عابراً، من خلال شخصية (جبار الأعضب) الممثل ميمون الخالدي، الذي كتب يافطة عريضة في مكتبه تحمل اسم (هاروت وماروت)، حيث يمارس أعمال السحر!
وسيزداد هذا الاستخدام غرابة وافتراقاً عن المضمون باختيار «تايتل» البداية والنهاية الغنائي للمسلسل والمأخوذ من أشعار المتصوف الشهير(الحلاج) من غناء محمد سجاد، والتأليف والتوزيع الموسيقي رضوان نصري. ولم أجدْ أيّة علاقة بين هذه المقطع من الأشعار الصوفية ومزج رقص الدراويش الدائري بالطريقة المولوية مع الرقص الشرقي كواجهة أمامية لمسلسل يكتظ بمشاهد الجريمة والقتل والعنف المتبادل بين العصابات المتناحرة؟
سقفٌ زمنيٌّ وأبعادٌ نفسية
اختار المسلسل سقفاً زمنياً درامياً مُتحرّكاً يبدأ في العام 2019 ثم يعود إلى العام 1987 في مستشفى الرشيد العسكري، ليضعه خلفية تأريخية، مسببة ومحفزة لأعمال الدكتور(شاهين) أو هادي عبد المنعم، كما يكشف عن حقيقة شخصيته في نهاية المسلسل الممثل جواد الشكرجي، ليستقر الزمن عند العام 2022 حيث تدور أحداث المسلسل.
اعتمد المسلسل كثيراً على البعد النفسي في بناء الشخصيات الرئيسة، باعتباره الدافع أو الباعث الدرامي لأعمال العنف والجريمة وعملية تصفية الحسابات القديمة، ولا سيِّما في الكشف عن خلفيات أعمال (لجنة شرحبيل) سيئة الصيت في حرب الثمانينيات إبان سنوات النظام الديكتاتوري السابق، والتي راح ضحيتها الدكتور(شاهين) حيث تمَّتْ سرقة كليته، وهو الفعل الذي جعل منه شخصية مجرمة بسلوك سايكوباثي مضطرب احترف معه سرقة الأعضاء البشرية والمتاجرة بها.
تساعده بذلك (نسومة) الممثلة السورية رنا الأبيض، التي تعمل على اصطياد ضحاياها من الفتيات البريئة لتدمجها في ذلك العالم الملوث بأعمال الليل والاتجار بالبشر.
وكان يمكن للمؤلفة من خلال التعرض لأعمال (لجنة شرحبيل) أن تدين النظام السابق وتكشف عن جرائمه، لكنَّ المسلسل اختار أنْ تكون الإدانة للشخصيات الدرامية، وليس للنظام السياسي السابق نفسه.
ويقف نفس البعد النفسي كخلفية لسلوك وتصرفات(عبود) مقداد عبد الرضا ومزاجه المتقلب بين الحزن والبهجة؛ حيث يعاني من فقدان أسرته بحادث احتراق سيارته، ولذا نجده يسعى للانتقام من القناص (سابو) محمود أبو العباس، ذلك القاتل المأجور المحترف، من دون أي تبيان أو كشف للأسباب التي دفعت الأخير ليكون كذلك.
لكن شخصية زعيم العصابة (صفوان) جلال كامل ورجاله المدججين بمختلف الأسلحة ومسكنه الفخم على ضفة النهر، ظلتْ تتحرك في الفراغ بدون أيّة حوافز أو دوافع درامية واضحة، لا سيِّما في علاقته مع (شاهين) رغم أننا شاهدنا حضور (صفوان) الدائم وأفعاله الانتقامية القائمة على التنافس والعنف المتبادل بين الإثنين.
وفي الفراغ الدرامي الكبير ذاته ظلتْ تتحرك شخصية (فله) الممثلة آسيا كمال بملابسها الرثة الثابتة طوال الحلقات وسلوكها غير السوي، الذي بقي أقرب للشخصية المصابة باللوثة العقلية منه إلى السلوك المنضبط والمقصود، ولمْ يتوضحْ لنا هدفها رغم حركتها الدرامية الدائرية في علاقتها مع الشخصيات الأخرى، خاصة وأنَّ ظهورها جاء بعد مقتل ابن عمها (طعمة) الممثل حقي الشوك.
عانى المسلسل في الحلقات الخمس الأولى من ربكة واضحة في السيناريو، ولمْ تتوضح منظومة العلاقات المتداخلة بين المحاور والخطوط الدرامية، وظهور الشخصيات واختفائها، قبل أن تأخذ تلك الشبكة من العلاقات طريقها داخل أعمال العنف وعمليات القتل المتبادلة، وكثرة المشاهد الدموية حيث التفجيرات والتصفيات الجسدية لأسباب واهية، وأحياناً من دون ذكر الأسباب.
وحتى قصص الحب التي جسَّدتْها الخطوط الدرامية لكل من (زمن) نور الخفاجي و(أثير) أثير كشكول، و(كوجي) أساور عزت، و(سماره) سامر دشر، لمْ تقدّمْ إشارات، أو بوادر، أو ملامح أمل للخلاص مما هي فيه، إذ سرعان ما غاصتْ في مستنقع الجريمة والعنف!
دراما الشوارع الخلفيَّة
لقد إنساق مسلسل (الماروت) وراء تقديم (ديستوبيا) عراقية، قوامها الجريمة والقتل والأسلحة الكاتمة، وتجارة المخدرات والأعضاء البشرية، يقابلها غياب تام وكامل للأجهزة الأمنية المختصة بمكافحة الجريمة بأنواعها، وعدم وجود أيّة جهات حكومية معنية بمتابعة ورصد تلك العوالم والأجواء وشخصياتها التي احترفت الجريمة بأنواعها.
وأوحى لي المسلسل وأنا أتابع أحداثه ومجرياته الدموية، وكأني أمام مسلسل أميركي من أعمال العنف والجريمة و(الأكشن)، وقد استعار المسلسل في جانب منه أجواء عصابات المافيا الإيطالية والتصفيات الجسدية في ما بينها. وقد غابتْ ملامح البيئة الاجتماعية العراقية المعروفة بشكل عام، رغم أنَّ المسلسل قد اختار الأزقة البغدادية القديمة بكل رثاثتها ووساختها والشوارع الخلفية المظلمة كبيئة مكانية درامية رئيسة. وأضافت الأجواء الشتوية الممطرة والباردة نوعاً من البرود العاطفي، إزاء الشخصيات التي نراها على الشاشة، رغم أنَّ المخرج قد نجح في رسم وتجسيد نماذج فنية درامية متميزة (كاركتر) مثل التي أدّاها باقتدار، وتمكّن فني واضح كلٌّ من الفنانين (جواد الشكرجي، ومقداد عبد الرضا، ومحمود أبو العباس، وجلال كامل، وآسيا كمال) على وجه الخصوص، لكنها عموماً افتقدتْ لعنصر التعاطف معها والانحياز اليها، رغم أنَّهم ظهروا أمامنا، بوصفهم ضحايا لظروفهم الشخصية وبيئتهم الاجتماعية.
هل يمكن اعتبار تقديم مسلسل (الماروت) كنموذج درامي بطابع اجتماعي، للكشف عن تعرض المجتمع لاضطراب ما بعد الصدمة، الذي يصيب عادة الأفراد والمجتمعات، التي تخوض الحروب وتعاني من الأزمات المتتالية لتخرج منها، وهي تعاني من عدم الاستقرار وخلخلة في بنيتها العامة وغيرها من التبعات والظواهر السلبية، لا سيّما إذا أعدنا للذاكرة الجمعية سنوات الحكم الديكتاتوري السابق، التي عانى منها المجتمع العراقي، ليدخل بعد العام 2003 في دوّامة الأزمات المتتالية وما رافقها من عدم الاستقرار السياسي.
والسؤال المطروح هنا: هل هناك ضرورة درامية أو اجتماعية تقف وراء هذا المسلسل وسط هذه الموجة الطاغية من أعمال العنف والجريمة؟.
هل يمكن اعتبار تقديم المسلسل كنموذج درامي بطابع اجتماعي؟