محمد الشماع
ترجمة: مي اسماعيل
وسط المباني المدمرة وآلاف القتلى في مدينة غزة؛ هناك ضحايا آخرون أخرى غالباً ما يتم تجاهلهم.. إنها المؤسسات الثقافيَّة المحطمة في القطاع المحاصر؛ وخاصة مكتباته القليلة. منها تحديدا: مكتبة بلدية غزة، ومركز {رشاد الشوا} الثقافي (حيث عقد اجتماع بين الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون والفلسطيني ياسر عرفات قبل نحو ربع قرن)، وقد تعرضا لقصف أحالهما إلى ركام خلال الحرب مع إسرائيل التي تقارب شهرها الثاني؛ في مسعى الأخيرة لتدمير حماس التي تسيطر على قطاع غزة.
قال بيان من الحكومة المحلية: "استهدفت طائرات الاحتلال مبنى المكتبة العامة وأحالته إلى ركام، وأتلفت آلاف الكتب والعناوين والوثائق التي تسجل تاريخ المدينة وتطورها. إضافة لتدمير قاعة دورات اللغات ومرافق المكتبة الأخرى".
كذلك ذكر بيان الحكومة المحلية تدمير مركز "رشاد الشوا" الثقافي ومطبعة البلدية. ووصفها بأنها محاولة "لنشر حالة الجهل في المجتمع". ومن غير الواضح الموعد الفعلي لتدميرها؛ إذ لم تسنح الفرصة للوصول إلى أجزاء كثيرة من المدينة، إلّا بعد إعلان الهدنة وتوقف القتال يوم الثاني والعشرين من تشرين الثاني المنصرم.
ركّز الهجوم الإسرائيلي غالبًا على مدينة غزَّة والجزء الشمالي من القطاع؛ ردا على هجوم حماس يوم السابع من أكتوبر الماضي. لكن المدنيين هم الذين تحملوا وطأة الرد الإسرائيلي؛ حيث قُتل ما لا يقل عن 13300 شخص في القطاع (حتى وقت كتابة المقال- المترجمة)، ووقع تهجير ثمانين بالمئة من سكانه.
ووسط كل هذا الدمار بالكاد حظي السكان بفرصة التعامل مع فقدان المؤسسات الثقافيَّة القليلة في القطاع المكتظ بالسكان، والتي ينظرون إليها كملاجئ ومنارات ثقافيَّة نادرة.
وعندما سُئل عن الضربات؛ لم يرد الجيش الإسرائيلي عن ما إذا كان قد ضرب المكتبات، واكتفى بالقول إنه.. "يتبع القانون الدولي ويتخذ الاحتياطات الممكنة للتخفيف من الأضرار التي تلحق بالمدنيين".
لكن الصور التي التقطتها الادارة المحلية أظهرت مبنى المكتبة الرئيسي مدمرا من الداخل، والكتب متناثرة على أرضية يغطيها الحطام والغبار، وعدد قليل من الرفوف السليمة.
مكان هادئ
كان نظام إدارة المكتبات يشمل مكتبة بلدية غزَّة، فضلا عن مركز ثقافي ومكتبة للأطفال؛ وكانت مكانا للتجمع أثناء المناسبات وموقع التقاء للطلاب والعائلات والمؤلفين. بحسب الموقع الإلكتروني لبلدية غزَّة تأسست المكتبة عام 1999، عبر اتفاقية توأمة مع مدينة دانكيرك الفرنسية وبتمويل من البنك الدولي. وكان مبنى المكتبة يتألف من طابقين وسرداب، وتشمل محتوياتها نحو عشرة آلاف مجلد باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، كذلك أصبح مركز "رشاد الشوا" الثقافي ومكتبة "ديانا تماري صباغ" المجاورة، والتي افتتحت عام 1988، في حالة خراب. يتحدث عبد الهادي العجلة، وهو أكاديمي من غزَّة مقيم في السويد، كيف بدأ يتردد على مركز الشوا عندما كان في الخامسة عشرة من عمره؛ قائلا: كانت المكتبة مكانا وادعا، وفيها كافتيريا هادئة، والمكان منعش دائما؛ خاصة في فصل الصيف.
تعرضت المتاحف والمواقع الأثرية ومباني الحرم الجامعي في غزَّة إلى الضرر والتدمير بسبب الغارات الإسرائيلية خلال العدوان الحالي؛ كما أكدت جماعات حقوق الإنسان ورعاية التراث الثقافي. بينما إدعت إسرائيل أن بعض تلك المواقع؛ مثل الجامعة الاسلامية في غزَّة، كانت مواقع استخدمتها حماس لعملياتها.
وجد مسح للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2010 أن في قطاع غزَّة 13 مكتبة عامة. بينما قال مصعب أبو توهة، وهو الشاعر الفلسطيني من غزَّة والمساهم في مجلة نيويوركر، في حديث له عام 2020 إن "أغلب تلك المكتبات ضعيفة التجهيز".
مصعب أسس أول مكتبة باللغة الانكليزية في غزَّة عام 2017، وحملت اسم الناقد الأدبي الفلسطيني واستاذ جامعة كولومبيا الراحل "ادوارد سعيد". بدأت تلك المكتبة العمل بمبدأ "التعهد الجماعي"؛ أي- الاستعانة بمصادر خارجية للعديد من مجلداتها وجهود بعض المتبرعين. كان بعضها من المجموعة الخاصة لمن أطلق اسمه على المكتبة، تبرعت بها أرملته "مريم سعيد"، كما تلقت بعض التمويل من الروائي الحائز على جائزة بوليتزر" فيت ثان نوين". ولا تتوفر حاليا معلومات عن مصير هذه المكتبة.
لا يمكن استرجاع الذكريات
كان مصعب أول من طرح فكرة المكتبة عام 2014؛ بعدما سار بين ركام مباني الجامعة الاسلامية في غزَّة؛ بعد تعرضها لقصف إسرائيلي خلال جولة سابقة من المواجهات.
لاحظ مصعب أن الغزيّين يخوضون معركة شاقة لغرض استيراد الكتب إلى القطاع؛ إذ تتعرض الشحنات للعراقيل لدى اجتياز معبر رفح، وبالتالي يجري ارسالها إلى الضفة الغربية.
وقال في حديثه عام 2020 لوصف الموقف: إنه كمن يطلب من رئيس مكتبة أمريكية السفر عبر المكسيك لاستلام طرد في غواتيمالا!.
بعد انتشار الأخبار عن تدمير مكتبات غزَّة، توالت التعليقات المستنكرة؛ وقال أحدها ببساطة: هل تعلمون ماذا فعل المغول عندما غزوا بغداد؟؛ في إشارة إلى تدمير مكتبات بغداد ومراكزها العلمية بعد الغزو المغولي.
وطالبت السلطات البلدية في غزَّة بحماية اليونسكو للمؤسسات الثقافيَّة، لافتة الانتباه إلى أن تلك المؤسسات.. "محمية بموجب القانون الإنساني الدولي".
يقول عبد الهادي العجلة إن "المكتبة ستفتقدها الطالبات على وجه الخصوص؛ إذ كانت بالنسبة لهن مساحة آمنة. الكتب يمكن استبدالها؛ لكننا خسرنا أيضا مكانا للتجمع.. ولا يمكن استرجاع الذكريات".
صحيفة الواشنطن بوست