فلسطين.. من الغياب إلى الحضور (2-2)
د. نادية هناوي
يكمل أدوارد سعيد في القسم الأول من الفصل الأول المعنون (فلسطين والفلسطينيون) تحليله التاريخيّ للمسألة الفلسطينيّة ويدعم هذا التحليل بشواهد أدبيَّة وأرقام احصائيّة فيقول: (أقرأ أية رواية عن الرحلات إلى الشرق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر: شاتوبريان، مارك توين، لامارتين، نيرفال، دزرائيلي، ستجد هناك روايات دونت عن السكان العرب على أرض فلسطين. ووفقا للمصادر الإسرائيلية لم يكن هناك أكثر من أربعة وعشرين ألف يهودي في فلسطين عام 1822 أي أقل من 10 بالمئة من إجمالي السكان العرب الذين يشكلون أغلبية ساحقة . صحيح أنه في أغلب الاحيان كان هؤلاء العرب يوصفون بأنهم غير مثيرين للاهتمام وغير متطورين لكنهم كانوا هناك لا على الأقل ولكن دائما تقريبا لأن الأرض كانت فلسطين لا من خلال واقعها الحالي وسكانها حسب بل أيضا من خلال ماضيها المجيد والمبشر بالإمكانات اللامحدودة على ما يبدو لمستقبل بنائها ويعد الفونس دي لامارتين مثالا حيا على ذلك.
زارها عام 1833 وكتب عن اسفاره سردا من عدة مئات من الصفحات بعنوان (رحلة إلى الشرق) وعندما نشر العمل ثبت عليه (سيرة ذاتية سياسية) وتضمن سلسلة اقتراحات للحكومة الفرنسية وعلى الرغم من أنه قدم في الرحلة تفاصيل لقاءاته العديدة مع الفلاحين العرب وسكان المدن في الاراضي المقدسة، فانه أعلن في سيرته الذاتية أن المنطقة لم تكن في الواقع دولة (من المفترض أن سكانها ليسوا مواطنين) وأنها مكان رائع لمشروع امبراطوري استعماري ستقوم به فرنسا. ما يفعله لامارتين هو إلغاء وتجاوز واقع فعلي- مجموعة من العرب المقيمين- كرغبة مستقبليّة بأن تكون الأرض فارغة لتتملكها قوة أحق بها.
وهذا النوع من التفكير على وجه التحديد هو الذي شكّل الشعار الصهيوني الذي صاغه يسرائيل زانجويلZangwill باتجاه فلسطين في نهاية القرن: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
لعبت فلسطين دوما دورا خاصا في مخيلة الغرب وإرادته السياسية وهي المكان الذي نشأت فيه أيضا الصهيونية الحديثة على أساس أن فلسطين مكان مشترك لزيارة الأماكن المقدسة. لقد كانت جائزة الحروب الصليبية، وكمكان كان يسمى (والتسمية وإعادة تسمية المكان لا نهاية لها) مسألة ذات أهمية عقائدية وكما قلت في أعلاه فإن تسمية المكان/ فلسطين وليس إسرائيل أو صهيون هو عمل من أعمال الإرادة السياسية. وهذا ما يفسر جزئيا الاصرار في كثير من الكتابات المؤيدة للصهيونية على التأكيد المشكوك فيه بأن فلسطين لم تستعمل إلا كاسم إداري في الامبراطورية ولم تستعمل قط منذ ذلك الحين باستثناء فترة الانتداب البريطاني بعد عام 1922 وهنا نرى مثالا آخر لنفس الآلية التي استخدمها لامارتين: استخدم المستقبل أو حلم الماضي لطمس الحقائق الواقعة بين الماضي والمستقبل. والحقيقة بالطبع هي أنه إذا قرأ المرء ما كتبه الجغرافيون والمؤرخون والفلاسفة والشعراء باللغة العربيّة منذ القرن الثامن الميلادي فصاعدا فسيجد إشارات إلى فلسطين ناهيك عن الإشارات التي لا حصر لها إلى فلسطين في الأدب الاوروبي منذ العصور الوسطى حتى الوقت الحاضر. قد تكون هذه النقطة صغيرة لكنها تفيد في أظهار مدى ابستمولوجية الاسم والحضور الجسدي لفلسطين وما في هذا الحضور من حمولة خيالية وعقائدية ثقيلة جدا تحولها من كونها واقعية إلى أن تكون غير واقعية.
نقطتي الأكثر أهمية هي أنه بقدر ما يتعلق الأمر بالعرب الفلسطينيين فإن المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين كان ببساطة هو الأكثر نجاحا والأطول حتى الآن من بين العديد من المشاريع الاوروبية المماثلة منذ العصور الوسطى أقول هذا كتوضيح تاريخي بسيط نسبيا دون أن أرغب في هذه المرحلة في قول أي شيء عن الميزة الجوهرية للصهيونية مقارنة بالمشاريع السابقة.
أصبحت فلسطين دولة ذات أغلبية عربية وإسلامية بحلول نهاية القرن السابع وبعد ذلك مباشرة أصبحت حدودها وخصائصها بما في ذلك اسمها باللغة العربيّة (فلسطين) معروفة في العالم الإسلامي بأكمله بسبب خصوبة أرضها وجمال طبيعتها وكذلك لأهميتها الدينية، ففي أواخر القرن العاشر مثلا نجد هذا المقطع باللغة العربية: ( تقع محافظة فلسطين في أقصى غرب محافظات سوريا وفي أقصى رفح إلى حدود العجون يستغرق سفر الراكب يومين ومثل ذلك الوقت لعبور المحافظة في اتساعها من يافا إلى اريحا ومنطقة زوكر سيجور وبلد قوم لوط أو ديار قوم لوط إلى جباليا وايله، وهما محافظتان منفصلتان ولكنهما متجاورتان تدخلان في فلسطين وتتبعان لحكومتها. تسقي مياه الأمطار فلسطين ويمد الندى أشجارها وأراضيها بالرطوبة فلا تحتاج إلى ري صناعي وفقط في نابلس تجد المياه مؤدية هذا الغرض. وتعد فلسطين من أكثر المحافظات السورية خصوبة وعاصمتها فلسطين، وأكبر مدنها الرملة لكن المدينة المقدسة (القدس) تقترب جدا من هذه الأخيرة من حيث الحجم، ويوجد في محافظة فلسطين على الرغم من صغر حجمها أكثر من عشرين مسجدا، فيها منابر لصلاة الجمعة).
في عام 1516 أصبحت فلسطين احدى ولايات الامبراطورية العثمانية لكن ذلك لم يجعلها أقل خصبا ولا أقل عربية وإسلامية. وبعد قرن من الزمان وصفها الشاعر الانجليزي جورج ساندرز بأنها أرض تفيض لبنا وعسلا في وسط عالم صالح للسكن وفي ظل مناخ معتدل مزينة بجبال خلابة وأودية خصبة وتتفتق الصخور مياها عذبة. وليس هناك جزء خال من البهجة.
استمرت مثل هذه التقارير تكتب بغزارة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ليس فقط في مذكرات الرحالة بل في تقارير مطبوعة علمية فصلية كتبت في نهاية القرن التاسع عشر ونشرها صندوق استكشاف فلسطين (البريطاني) وعلى الرغم من أن تدفق المستعمرين اليهود إلى فلسطين استمر بعد عام 1822 فإن من المهم أن ندرك أنّه حتى الاسابيع القليلة التي سبقت انشاء إسرائيل مباشرة في ربيع عام 1948 لم يكن هناك أي شيء سوى أغلبية عربية كبيرة. على سبيل المثال بلغ عدد السكان اليهود في عام 1931 174,606 مقابل 1,0330314 وفي عام 1936 ارتفع عدد اليهود إلى 384,078 من مجموع 1,03660692
في عام 1946 كان هناك 608,225 يهوديا من إجمالي عدد السكان البالغ 1,912,112 نسمة. في كل هذه الاحصائيات كان من السهل تميز (السكان الاصليين) عن المستعمرين القادمين ولكن من هم هؤلاء السكان؟
أنهم الذين يتحدثون العربية وكان معظمهم من المسلمين السنة على الرغم من أن أقليَّة بينهم كانت من المسيحيين والدروز والمسلمين الشيعة وجميعهم يتحدثون اللغة العربية أيضا.
وكان ما يرقب من 65 بالمئة من العرب الفلسطينيين هم من المزارعين الذين يعيشون في حوالي 500 قرية يزرعون محاصيل الحبوب وكذلك الفواكه والخضراوات. أما أبناء المدن الفلسطينية الرئيسة كنابلس والقدس والناصرة وعكا ويافا واريحا والرملة والخليل وحيفا فكانوا بشكل رئيس من العرب الفلسطينيين الذين استمروا في العيش هناك حتى بعد أن توسعت المستعمرات الصهيونية وزحفت بالقرب منهم. وكانت هناك أيضا طبقة فلسطينية مثقفة ومهنية محترمة. وأخذت الصناعات الصغيرة بالظهور وتطور الوعي الوطني وانتظمت الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الفلسطينيَّة وأخذ يسود فيها حديث عن الاستقلال ومناهضة الاستعمار. فكان الأرث هو الحكم العثماني ثم الاستعمار الصهيوني وسلطة الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى.
شعر عرب فلسطين عامة دون استثناء تقريبا بأنهم جزء من الصحوة العربية الكبرى التي اندلعت منذ أواخر القرن التاسع عشر وهذا الشعور هو الذي أوجد نوعا من التماسك في التاريخ الحديث بين الكتّاب والمثقفين الفلسطينيين مثل حكم دروزة وخليل السكاكينة وخليل بيدس ونجيب نصار والاحزاب السياسية مثل حزب الفتوة وحزب النجدة وتشكلت اللجنة العربية العليا وجبهة التحرير الوطني العربية التي جادلت بأن المسألة الفلسطينية لا يمكن أن تحل إلا بالعرب واليهود معا. ولقد شكلت كل هذه الكتل الوطنية الكبرى ثقلا بين السكان ووجهت طاقات المجتمع الفلسطيني غير اليهودي وخلقت هويّة فلسطينيَّة معارضة للحكم البريطاني والاستعمار اليهودي على حد سواء. واخذ الشعور الفلسطيني بالتضامن والانتماء يزداد مع استمرار عمليات الاستيطان لمجموعة قومية لها لغة( لهجة عربيّة فلسطينيَّة).
وهدد هذا الشعور الفلسطيني الموحد الصهيونية بشكل خاص منذ بداية تخطيطها الجاد لاحتلال فلسطين أي تقريبا منذ الحرب العالمية الأولى وما بعدها. ويمكن ملاحظة تزايد انتشار فكرة بناء إسرائيل على انقاض فلسطين العربية التي كانت قد طرحت بقدر كبير من الحذر وبما يتناسب ومفاهيم إعادة البناء ذات الاهمية البالغة للامبريالية الاوروبية.
أشار ثيودور هرتزل في عام 1895 في مذكراته إلى أن من الواجب القيام بشيء ما بشأن السكان الاصليين الفلسطينيين (سيتعين علينا أن ننقل السكان المفلسين penniless عبر الحدود من خلال توفير فرص العمل لهم في بلدان اللجوء ( العبور) ومنعهم من أي عمل في بلدنا يجب أن تتم عمليتا المصادرة وابعاد الفقراء بتكتم وحذر )
وتراسل اللورد ورتشيلد نيابة عن الصهاينة مع الحكومة البريطانية في المرحلة التي سبقت اصدار وعد بلفور وتتحدث مذكراته المؤرخة في 18 يوليو 1917 عن ( مبدأ إعادة تشكيل فلسطين) لتكون الوطن القومي للشعب اليهودي وسرعان ما تحدث حاييم وايزمان عن حقيقة تفهم البريطانيين كيف كان اليهود وحدهم قادرين على إعادة بناء فلسطين واعطائها مكانا في أسرة الامم الحديثة. وتحدث الحاخام الأكبر لانجلترا الدكتور جي اج هيرز ببلاغة عن الدعم البريطاني القوي لإعادة انشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين ومع ذلك لا يوجد في أي من هذه التصريحات ما يمكن العثور عليه حول إعادة دستور فلسطين وإعادة بناء البلاد أو كيف وأين سيتم ذلك. إن النظام الذي كان سيحل محل دستور فلسطين هو ظهور دولة يهودية جديدة. ولقد تجاهل اسلوب إعلان النوايا هذه أية اشارة إلى الحقيقة المزعجة بلا شك وهي أن البلاد قد تم تأسيسها بالفعل كمستعمرة فقط وإن كان من غير المرجح أن يكون السكان سعداء بإعادة تشكيلهم على يد قوة استعمارية جديدة. لكن التصريح الذي يظهر لنا كم كانت هذه الاعمال وحشية كما اعتقد هو تصريح موشيه ديان في ابريل 1969 ( لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان يسكنه العرب بالفعل ونحن سنقوم بإنشاء دولة عبرية هي يهودية هنا. وفي مناطق كثيرة من البلاد بلغت المساحة الاجمالية حوالي 6 بالمئة اشترينا أراضي من العرب وبنينا قرى يهودية مكان القرى العربية أنتم لا تعرفون حتى اسماء هذه القرى العربية لأن كتب الجغرافيا هذه لم تعد موجودة ليس فقط أن الكتب غير موجودة بل أنّ القرى العربية ليست موجودة أيضا قامت نهلال قرية ديان بدلا من محلول وجفعات بدلا من جبتا وكيبوتس ساريد بدلا من هنيفز وكفر يهوشوع بدلا من تل شامان. لا يوجد مكان واحد في هذا البلد لم يكن فيه سكان عرب سابقون) صحيف هارتز4 ابريل 1969 .
وحتى المصطلحات التي يستعملها ديان على الرغم من صراحتها إلا أنها ملطفة ذلك أن ما يعنيه بقوله ليس هناك قرى عربيّة إنما يعني إنها دُمرت بشكل منهجي. الإسرائيلي الغاضب البروفيسور إسرائيل شاحاك الذي يقدر أن ما يقرب من اربعمائة قرية قد تم القضاء عليها بهذه الطريقة وأن هذه القرى دمرت بالكامل بجدران حدائقها ومقابرها وشواهد قبورها حتى لم يبق حجر قائما ولا زوار يمرون عليها إلا ويقال لهم أن كل ذلك كان صحراء.
هناك بعض التطابق غير السار مع حقيقة أنه بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 تم تنفذ سياسة التدمير نفسها هناك وبنهاية 1969 تم تدمير 7554 منزلا عربيا وبحلول اغسطس 1971 تم تدمير وهدم 6,212 منزلا وفقا لصحيفة سنداي تايمز اللندنية في 19 يونيو 1977 .
ولم يكن هذا كل شيء فوفقا لأدق الاحصاءات التي اجريت حتى الان تم تجريد حوالي780 الف فلسطيني عربي من ممتلكاتهم وتهجيرهم عام 1948 من أجل تسهيل (إعادة اعمار وبناء فلسطين) ويقدر عدد هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين الآن أكثر من مليوني شخص.
وأخيرا نضيف أن عدد العرب المحتجزين منذ 1967 داخل الأراضي المحتلة ( الذين احتجزهم مناحيم بيغن بتهمة التحرير) هم مليون ونصف المليون وجزء منهم من عرب إسرائيل ما قبل 1967. إن احتلال فلسطين أدى إلى ظهور إسرائيل وكان مشروعا مكلفا للغاية خاصة بالنسبة للفلسطينيين العرب).