عبد الغفار العطوي
في الحرب التي التهمت العقد الثمانيني من القرن الماضي(1) كانت جولة (صور من المعركة) اليومية الإخبارية تقريباً، من بين البرامج المكرَّسة لتوليف تاريخ مزيَّف للصورة أثناء الحرب في عملية ضخِّ الفيديوهات القصيرة التي يغطيها التلفاز الوطني(المحلي) عندنا في البلد آنذاك، و تُعرض صور القتلى من الجانب الآخر (ربما يختلط الأمر فيكون العكس) المهم إن هذه الصور أريد لها البقاء كحقيقة تاريخية على الانتصار الصوري الوهمي، و إن كانت محض أكذوبة..
ففي أكاذيب الحروب، ثمة ستراتيجية تقتضي في كل عملية حرب عسكرية أن تتطلب درعاً من الخداع (تاريخ الكذب) و لا بأس أن تأتي هذه الصور من باب الخدعة، لكنها، أي الصور(الصورة) لم تفطن أن تحمل معها احتمالية ثنائية (الحقيقة\ الكذب) التي سيكشفها الحاضر بعد ذلك في معنى الماضي بالنسبة للحاضر، إذ يقول أ. ج. هوبزبوم بما معناه أن التعامل مع الماضي بالنمط المطروح بالحاضر، لذا فإن الكشف عن غاية الحاضر بالماضي هو تنميطه،و للصورة دور مهم في الربط بين الماضي والحاضر في فهم دور السيمياء(باعتبار الصورة علامة بصرية تحمل في متنها إرسالية لفظية إبلاغية) و يتم ذلك الربط في عملية تواصلية تقع بين حدين من تاريخ الصورة بوصفها التقاطاً في زمنية معينة للوضعات أمام عين الكاميرا،عبر وسيلتين،الأولى في تجليات الصورة، و الثانية في الصورة الإشهارية، في تجليات الصورة تتم معالجة مفهوم الصورة، و مدى العلاقة بين اللغة و الصورة (باعتبار الصورة تقع بين نمطي اللغة بوصفها لفظية، و كونها بصرية) ما دامت طبيعة الصورة علامة بصرية، فإذا كانت الصورة تمثيلاً بصرياً لشيء، أو لكائن، أو لمنظر من الطبيعة، إنها في الظاهر على الأقل هي محاولة لمحاكاة عالم خارجي بواسطة آلة فوتوغرافية أو كاميرا، لندرك أن حركة المحاكاة تشترط نقل لمسات زمكانية تتأصل في علامة لفظية مؤولة (صدقاً أو كذباً) و لا تبدو في هذه الصورة كيف يتم للصورة انتاج معانيها بسهولة، لأنه تعد الصورة عالماً مغلقاً مكتفياً بذاته، إنها دلالة على غياب شيء ما، لا على حضوره تحتاج هنا لمؤول لفظي، و المؤول اللفظي من سماته التحكم بتاريخ التأويل، أما في الصورة الإشهارية فالأمر مختلف نوعاً ما، فأول نقطة في تمييزها هو بوصفها خطاباً إشهارياً، إذ إن الإشهار يعتبر أحد الأنماط الأساسية للترويج لمنتج ما (المعركة قائمة على إنتاج انتصار يستهلكه الجميع على مختلف وسائلهم) إذ حالما يتم التقاط الصورة يضمحل الزمن التاريخي باعتباره حدثاً، و يندثر في التاريخ الزمني السيمي، لكن الصورة الإشهارية لا تفقد خاصية اضمحلال التأويل الذاتي فيها في وجود متلقين فاعلين للمنتج، و لصيغة اللغة الرمزية التعريفية لهذا المنتج (ها أنا أتذكر ما حدث بعد مرور 4 عقود)، إضافة لذلك ديمومة الصورة (الإشهارية) تنبع ليس من ذاتها، بل من قيام المؤول على محاباتها، لأنها تعتبر وسيلة من وسائل التسويق لمنتجات عبر وسائل الإعلان، فالتسويق هنا مازال حاضراً لكن وفق تاريخ مضطرب متأرجح بين الحقيقة و الكذب، و هي نقطة مخلِّة بالمنهج الاركيولوجي في عملية التوثيق كما بيَّنها جاك ديريدا في (أركيولوجيا التوهُّم) في ما يتعلق بمفهوم الإرشيف من خلال تفقد حقيقة الحدث، حينما ينفصل الزمن عن وقاية حتى الصورة الإشهارية،لتطل جماليات الصورة الورقة الأخيرة في فهم ما إذا كانت تحمل الصدق أم الكذب، لذا نحرِّض على الميل لإسهام غاستون باشلار في علاقة الحوار بين العلم من جهة، و الشعر و الفن من جهة ثانية، التي ترتكز على الإبداعية الإنسانية في وصف إن الانجرار وراءها تقرره الجمالية التي لا تتعامل مع تاريخية الصورة، من هنا سنحتاج إلى أرشفة الماضي قبل طيِّه في التاريخ الحاضر،عن طريق اعتماد ماهية الخيال عند باشلار، من خلال تعميق دراسة تاريخية الصورة التي احتواها المكان، فلقد استطاع باشلار استنتاج ماهية حقيقة الصورة الشعرية من خلال فينومينولوجيا الخيال، و ما نطمح إليه تأثير تضاريس المكان فيواقعه نحو كونه مجرد تحولات في الأخيلة،التي تعتبر المكان صورة متخيلة، فباشلار ما دام ينظر للمكان من خلال كونه صورة فنية، نتبين من خلال كتابه (جمالية المكان) طرحاً مغايراً للمكان غير ما طرح من قبله، من إن مفهوم المكان عند باشلار في طرحه له من نظرة غير تقليدية ، واقعية مادية ذات أبعاد منظورة محسوسة (الهندسة الإقليدية)صورة بائلار للمكان تعني باختصار عملية تخيلية تتعامل مع المكان و صورته الواقعية المتعينة على شاعريته، وعي التحقق في المناخ الشعري، و هو تحول باهر في نمط رؤية الفلسفة باتجاه غزو اللاواقعي للواقعي، و هدم حدود صدقيته وكذبيته، أنا باعتقادي إن التذكير بما قام به جاك ديريدا من قطع الطريق على الحكم السريع ، خشية وقوع المرء في إشكالية احتمالية ثنائية (الصدق و الكذب) و تطبيقها في الفصل في العلاقة بين معنى الماضي الذي لم يعد موثوقاً به بفقدانه الحدث الزمني، و بين الحاضر الآني المدرك بالحدث الزمني في صورة المكان الملتبس، إلا في عملية (الصفح) الديريدي الذي يصل إلى مستوى الغفران (بالبلاغة الفرنسية) بما لا يعني أن نتغاضى عن اسلوب الفهم للماضي على إنه أرجحة، إنما كونه أرشفة، و بذلك نحن نرفض بتعبير زيجمونت باومان أن نؤمن بإبهام التاريخ (باومان ينقد أخطاء الحداثة) و نفضل التضامن على التسامح، فالماضي لا تسامح فيه حتى في دراسة (صور من المعركة) البغيضة، لكن الحاضر هو الذي نبتغي إزالة الشحوب عنه، ليكون الصدق أو الكذب على مرمى حجر، من صور المعركة التي لو محينا كل آثار الدلالات اللفظية التي تشير للحقيقة الكاذبة(صوت المعلق على تصوير الفيديوهات منطلقاً من تريخ الكذب) يقول خوان خاثينتو مونبوت رنخيل بسخرية لاذعة: سمح لنا الكذب و الخداع و الادعاء أكثر من أي شيء آخر عداها، بالديمومة، كما يعد نظم الشعر و السرد تأليف الحكايات الخرافية، الحدس، التزييف، مراحل أساسية ضمن عملية المعرفة، نعم المعرفة وسيلة سهلة في إقناعنا بأن الكذب هو نصف الحقيقة، أو الوجه الثاني للعملة.
1 - الحرب بين العراق و إيران 1980-1988