قبيل الانتخابات .. ما خيارات الناخب العراقي؟
رحيم رزاق الجبوري
ما زالت ذاكرتنا المليئة بالحزن والمصائب والفواجع والحروب، تتغنى بأول انتخابات جرت بعد التغيير، وتحديدا في عام 2005، ومشاركة العراقيين بشكل كبير رغم التحديات الأمنية الكبيرة -وقتذاك- وخروجهم اللافت للمساهمة في بناء العملية الديمقراطيَّة الحديثة؛ سعيا منهم في رؤية عراق مشرق وواعد، بالرغم من مقاطعة طيف واسع منهم لأسباب عديدة؛ لكنها مضت وسط تهليل وترحيب وأمنيات صادقة ببلد ينعم أهله بالخير والرفاهية والهناء. إلا أنّ هذه الممارسة بدأت بالتراجع شيئا فشيئا، ولأسباب كثيرة ومعروفة لدى الجميع. وعزوف هذا الناخب المستمر وبهذا الشكل الغريب، جعل أي انتخابات تجري في البلاد مثار شك وعدم قبول ورضا؟
مَنْ الذي يستطيع ترميم هذه العلاقة وإعادتها إلى نصابها الحقيقي؟ ومن يفلح بأن يجعل الناخب يخرج طواعية لكي يدلي بصوته للمرشح الراغب بفوزه وتمثيله دون قيد أو شرط؟ ويكون البطل الحقيقي للعملية الديمقراطيَّة ونجاحها.
فعل غير مجد
يقول عبد الأمير المجر (أديب وصحفي)، إنه كتب مرارا وتكرارا في هذا الموضوع. وأغضب الكثيرين ممن يروجون للمقاطعة، إذ يقول: "إن قرار المقاطعة فعل غير مجد وسلبي، ويعود بالضرر على الناس؛ لأن القوى الفاسدة الممسكة بالسلطة لها جمهورها الثابت والذي يحضر في كل انتخابات ويصوت لها، والمقاطعة تعني تركها تنفرد بالمقاعد وحدها وتقرر مصير البلاد. وإن ذريعة التزوير وغيرها وعبارة (كل شي ما راح يتغير) هدفها إحباط الناس ومنعهم من المشاركة في التصويت. وفي حال تم تزوير أصوات الناخبين فالخروج إلى الشارع يصبح مشروعا".
روح وطنيّة مفقودة
من جهته، يشكو مهند الحامد (إعلامي) الذي يقطن في محافظة الأنبار، من سيطرة الأحزاب المتنفذة في محافظته، الأمر الذي سيؤدي للمقاطعة، بسبب الواقع السياسي المتردي، وعدم وجود إصلاح حقيقي وواقعي، إذ يقول: "إن هذه الأحزاب تسعى لخراب ونهب مقدرات المحافظة والتي سخرت جميع مفاصل الدولة لمصالحها الشخصيَّة والحزبيّة، فأصبحت هناك أزمة ثقة ما بين الناخبين والنخب السياسيَّة (الأحزاب والقوى السياسيَّة) التي سيطرت على مقدرات الدولة، وعدم ثقة الناخب من جدوى التصويت على اعتبار أن النتائج محسومة مسبقا، مما يتسبب في ضياع أصواتهم. إضافة إلى عدم ثقتهم بمفوضية الانتخابات التي بنيت على أساس المحاصصة، واتسامها بعدم الحيادية". ويضيف: "كما إن قانون الانتخابات غير العادل الذي وضع على أهواء الكتل الكبيرة المسيطرة على العملية السياسيّة؛ أدى إلى الفساد السياسيّ المستشري، وللأسف بأنّ جميع المرشحين ولاؤهم الأول لرئيس الكتلة، وليس للعراق. مع ترشيح الوجوه السابقة نفسها على الرغم من تورطها أو اشتباهها بقضايا فساد. كل هذا أسهم في زيادة نسبة العزوف الانتخابي ومقاطعة الانتخابات، لعدم وجود إصلاح واقعي، لا سيما في الوضع الحالي الذي يمر به البلد الذي يحتاج إلى ترسيخ للروح الوطنية المفقودة".
معايير خاطئة
فيما يرصد الكاتب عباس المفرجي، بعض الشواهد التي من شأنها أن تقلل من قيمة المرشح، وسعيه بالفوز بمنصب تشريفي وخدمي، إذ يقول: "شاهدنا في الآونة الأخيرة الحملات الانتخابيَّة، وكيفية إغراء الناخبين من خلال زيارات المرشحين المستمرة والمكثفة للعوائل الفقيرة ذوي الدخل المحدود، وارغامهم على انتخابهم بوعود تعجيزيّة وأحلام ورديّة تحلق بهم فوق أعالي الأفق، كون ذلك هو إحد المعايير الخاطئة المتبعة التي تحدد وجه اختيار الناخب لمرشحه في الوقت الحاضر".
وحدة الصف
ويضيف المفرجي، بالقول: "أما إحجام الناخب العراقي، على ممارسة حقه الديمقراطيّ، فهي معروفة من خلال التجارب السابقة التي استأنفت عملها من جديد في هذا الغمار الانتخابي المحموم، فوحدة الصف مطلوبة من الجميع، وتحديد الشخص الملائم والجدير بالثقة والذي يمتلك إمكانية عالية ونظافة اليد والتاريخ، إضافة إلى الابتعاد عن الوشايات المغرضة التي تشوه سمعة الآخرين من أجل تشتيت الأصوات؛ فالمستفيد الوحيد من كل ذلك هو اللص الذي سرق الأموال، ويسعى لسرقة الأصوات".
ثورة إصلاحية
إلى ذلك يشير حامد الحمداني (كاتب وصحفي) إلى شعور الناخب العراقي، باليأس والإحباط المستمر، بسبب مخرجات العملية الانتخابيَّة العقيمة، ويكمل بالقول: "إن أحد أسباب عزوف الناخب، هو معرفته سلفا بالنتائج، ويعتبر أن التزوير قائم ومتصاعد؟ ففي محافظة ديالى على سبيل المثال؛ جميع المقاعد محفوظة ومقسمة للأحزاب المتنفذة التي تمتلك السلطة والمال وكلاهما مصدر القوة والقرار. وعليه فهو يشعر بخيبة أمل، بسبب عدم وجود تغيير واضح المعالم، وإن الوجوه نفسها تتكرر مستبدلة الشعارات والعناوين. لهذا يعد مشاركته من عدمها لا تفضي لجديد، عطفا على المخرجات الانتخابية السابقة. فكسبه وعقد الصلح معه يحتاج لثورة وإصلاحات مفصلية في نظامنا السياسي الحالي".
فلسفة شاملة
وديع شامخ (شاعر وإعلامي) له رأي في العملية الديمقراطيَّة برمتها، إذ يقول: "يُعرّف (مونتسيكو) العدالة بوصفها فصل السلطات، وهذه فلسفة شاملة لمعنى الديمقراطية كتعبير عملي لمعنى الآليات العملية الواقعية للمفهوم الإجرائي للعملية الديمقراطية، لذا فإن تبسيط الديمقراطية واختصارها في الانتخابات بكل مستوياتها هو فشل واضح في تكامل العملية برمتها". ويكمل: "لنعود إلى الأسس التي تحمي الناخب والعملية الانتخابيَّة من الوقوع في فخاخ المجانية، وتجييرها لعناوين سياسيَّة ونفعيّة مخصوصة، فالأساس الأول للعملية الديمقراطية ليس في الفوز بالأكثرية كفرمان أو ترخيص للأكثرية في اغتصاب الحقوق، بل أن الأكثرية السياسية فقط عليها المسؤولية الكاملة في الحفاظ على حقوق الأقليات بالمعني السياسي، وليس الأثنيّ والقوميّ والديني والمذهبيّ".
امتحان العقل
ويضيف شامخ، الذي يرأس تحرير (مجلة ألف ياء) في إستراليا: "إن العملية الديمقراطيَّة ليس عادة نمارسها على سبيل إسقاط الفروض، ولا وظيفة نمطية مقابل أجور عينيّة أو ماديّة، وصناديق الاقتراع ليست نزهة لانتخاب المتنفذين رسميا وواقعيا سواء بالترهيب أو الترغيب؛ بل هي عملية لامتحان العقل والخيار الحر". وينوه إلى: "أنّ التجربة السياسيّة العراقيَّة بعد التغيير، ما زالت قاصرة في تمثلها لفلسفة الديمقراطية وتطبيقها عمليا، والوسائل العملية لهذه الإجراءات لا تمثل رغبة المواطن وأهدافه، بل تسعى إلى تخادم رخيص مع أنظمة خارج عملية الهدف العام لمعنى الانتخاب وحق الناخب في التصويت. وأرى هناك مشكلة بنيويَّة في نظام الانتخابات على كافة المستويات، البرلمانية منها ومجالس الحكم المحلية. وإن عزوف الناخب ينطوي على أمور متعددة، منها جهله في نتائج ومعطيات الانتخابات على أرض الواقع، أو يأسه من النتائج المتكررة أصلا، وهو فشل النموذج الديمقراطي وميوعته".
السلطة والمال
ويختم، شامخ، حديثه بالقول: "إن الأحزاب السياسيَّة والفرق والملل والنحل والميليشيات المتنفذة في حياة الشعب العراقيّ، والحسم البديهي لكل المرشحين الذين يمتلكون السلطة والقوة والمال، يبدو حلا واقعيا ولو كان هروبا للمواطن الذي يعرف أن معركته خاسرة مع صناديق مجوفة ومدفوعة الثمن. وأقترح أن نشيع ثقافة مفهوم الديمقراطية أولا قبل أن ننشغل في مفاهيم فاسدة منطقيا ومتساوقة مع مفهوم الأكثرية ودكتاتوريتها دينيا وطائفيا. فالانتخابات تحتاج إلى شجاعة الصوت الحر، والجرأة في قبول الآخر المختلف سياسيا، ولا تعني وصاية وكرسي حكم دائمين، وفق مفهوم (ميكافيلي) في الغاية تبرر الوسيلة ".
عامل الثقة
الكاتب والباحث فارس عودة، يتحدث من زاوية أخرى، قائلا: "إن الأسباب العميقة التي عملت عليها دولا استعمارية كبيرة للوصول إلى هذه النتيجة، وبذلت جهودا مهولة غير طبيعية في تحليل الإنسان والمجتمعات، وتوصلت في نهاية المطاف إلى أنّ المجتمعات لا تخلو أبدا من عناصر القوة والمقاومة التي هي دائما على استعداد إلى بذل النفس من أجل تحقيق مطامح شعوبها النبيلة، ومن غير السيطرة على هذا النوع من أبناء المجتمع من أصحاب القضية، فإن المطامع الاستعمارية ستكون في غير مأمن من هذه القنابل الموقوتة. لذلك - وبعد دراسات مستفيضة- اكتشفت القوى الاستعمارية الكبرى حقيقة مفادها: أن الشعوب إذا لم ينزع عنها أهم عامل من عوامل التواصل الشعوري المحرك الذي يفجر قنبلة الثورة ويطلق رياح التغيير، وهو (عامل الثقة)؛ فإن المصالح الاستعماريَّة بعيدة الأمد سوف تكون في مهب الريح، وقد طبقت أشرس وأشر الطرق لضرب كل عوامل الارتباط المحركة للشعوب في العراق وأغلب شعوب منطقة الشرق الأوسط، في عمل وخطط ومراحل عميقة متواصلة، حتى أوصلت بلادنا العراق إلى هذا المستنقع".
علاج مكفول
ويكمل عودة حديثه بالقول: "لذلك إذا ما أردنا أن نجعل المواطن العراقي يعود لممارسة دوره الانتخابيّ، فعلينا إعادة غرس الثقة فيه بوجود أناس يمكنهم تمثيله تمثيلا حقيقيا نزيها. وهذا الأمر يصعب معالجته في ظل ما يتلقاه المواطن من صدمات وخيبات نفسيَّة متوالية، بسبب الفساد السياسيّ المستشري في الوسط السياسيّ العراقيّ. ولا أعتقد إمكانية معالجته ما لم يكن تبني العلاج مكفولا من جهة ذات نفوذ وسلطة تفرض أسلوبا يوقف تناسل الفساد وانتشاره السرطاني، ومن ثم تبدأ بالعلاج".
مدخل وحيد
ويرى رئيس (منظمة إصلاحيون الثقافية) مهند الشمري، إن حق المشاركة السياسيَّة الذي تمنحه الأنظمة الديمقراطية للناخبين لتحديد مسار العملية السياسية من خلال انتخاب ممثليهم في المجالس المحليَّة والنيابيّة يعد حقا مهدورا بالنسبة للناخب العراقي الذي تعلم للأسف على هدر الكثير من الأشياء كالوقت والجهد والمستقبل، ويضيف الشمري، بالقول: "إلا إن إعادة بناء ثقافة سياسيّة في العراق ليس بالعمل المستحيل وهذا دور النخبة من (المفكرين والأكاديميين والإعلاميين وغيرهم) وهو المدخل الوحيد بنظرنا لتصحيح مسار مؤسسات الدولة. فالناخب العراقي هو الوحيد من يستطيع إعادة ضبط إيقاع العملية السياسيَّة من خلال معاقبة الفاسدين ومكافأة المهنيين انتخابيا".