روايات ما بعد الكولونياليَّة

ثقافة 2023/12/13
...

 أحمد الشطري


في منتصف القرن العشرين ومع ظهور حركات التحرّر في الدول المستعمَرة، ظهرت ما أصطلح عليها (روايات ما بعد الكولونياليَّة)؛ لتقدم عبر آليّات السرد قراءة رؤيويَّة للتحولات التي حدثت للأفراد والمجتمعات في أثناء أو ما بعد الاستعمار على صعيد الهوية واللغة والبنية الاجتماعيّة والثقافيّة وحتى الدينيّة. إذ كان للحكم الاستعماري تأثير عميق على مجتمعات وثقافات الدول المستعمَرة.
فقد فرض المستعمرون لغتهم ودينهم وأنظمتهم القانونيَّة وأعرافهم الثقافيَّة على السكان الأصليين في بعض الدول التي استعمروها، وغالبًا ما قاموا بمحو أو تهميش التقاليد والهويّات المحليَّة، وكان الاستغلال الاقتصادي والعمل القسري ومصادرة الأراضي من الممارسات الشائعة، مما أدى إلى انتشار الفقر وعدم المساواة بين الشعوب المستعمَرة.وكانت عمليّة إنهاء الاستعمار، التي اكتسبت زخما بعد الحرب العالمية الثانية، بمثابة النهاية الرسميّة للحكم الاستعماري في أجزاء كثيرة من العالم. ومع حصول الدول على استقلالها، ظهرت موجة جديدة من أدب ما بعد الاستعمار، تعكس تجارب ونضالات وتطلعات المجتمعات المحررة حديثًا، ولكن على الرغم من انتهاء الحكم الاستعماري رسميًا، إلا أن إرثه استمرَّ في تشكيل عالم ما بعد الاستعمار، إذ واجهت الدول المستقلة حديثًا العديد من التحديات، بما في ذلك عدم الاستقرار السياسي والتبعيَّة الاقتصاديّة والانقسامات الاجتماعيّة.
وغالبًا ما كانت روايات ما بعد الاستعمار تتعمّق في تناول هذه القضايا، وتركّز على الآثار المتبقية للاستعمار على الهوية الوطنيّة، والتراث الثقافي، والتسلسل الهرمي الاجتماعي، وديناميكيات السلطة. وأصبحت تلك الروايات وسيلة قوية تُمَكَّن الكتّاب من خلالها من كشف تعقيدات آثار الاستعمار، وإبراز صوت المهمّشين.وإذا كانت روايات (ما بعد الكولونياليَّة) متجذرة في المقام الأول في السياق التاريخي لدول ومناطق محددة، فإنّها تعكس أيضًا ديناميكيات عالميَّة أوسع. لقد أثر صعود العولمة، وترابط الاقتصادات، وحركة الناس عبر الحدود على موضوعات وسرديات أدب ما بعد الكولونياليّة، إذ يتم من خلالها استكشاف قضايا مهمة كالهجرة، والشتات، والنزعة العابرة للحدود الوطنيّة، وتأثير الاقتصاد العالمي، مما يسلّط الضوء على الترابط بين عالم ما بعد الاستعمار وبقية العالم.ومع مرور الوقت، تطورت وجهات النظر والموضوعات التي تم استثمارها في روايات ما بعد الكولونياليَّة، إذ غالبًا ما ركّزت الروايات المبكرة منها على الآثار المباشرة للحكم الاستعماري والنضال من أجل الاستقلال، في حين جاءت الروايات المعاصرة لتتعمق في تناول مجموعة واسعة من القضايا، بما في ذلك النوع الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية، والتمثيل الثقافي، وتأثير التكنولوجيا، لتمضي من ثمَّ في تحدي الثقافات السائدة، والتشكيك في هياكل السلطة، واستكشاف التعقيدات المجتمعيَّة.
و»تعد غاياتري سبيفاك أول من استخدم المصطلح في مقابلات أجريت معها نشرت عام 1990 بعنوان «النقد ما بعد الكولونيالي» The post-colonial «critic. ويمكن أن نعرض هنا لبعض الموضوعات التي تتناولها روايات ما بعد الكولونيالية:
1 - من بين أهم الموضوعات المركزيّة في هذه الروايات هو التأكيد على الهوية والانتماء، إذ غالبًا ما تصور هذه الروايات شخصيات تتصارع مع أسئلة الهوية الذاتيّة وتكافح من أجل إيجاد شعور بالانتماء في عالم شكّله الاستعمار. وغالبًا ما تأتي الشخصيات في هذه الروايات من خلفيات ثقافيّة متنوّعة وتقع بين هويات متعددة، مثل تراثهم الأصلي وتأثيرات المستعمرين. فتحرص هذه الروايات على تسليط الضوء على تعقيدات تشكيل الهوية والبحث عن مكان يمكن أن نسميه وطنًا.
2 -  تعد ديناميكيات القوة والمقاومة من الموضوعات المتكررة في روايات ما بعد الكولونيالية، وغالبًا ما تصور هذه الروايات علاقات القوة غير المتكافئة التي كانت موجودة خلال الحقبة الاستعمارية والطرق التي قاومت بها المجتمعات المستعمرَة، وتحدت الأنظمة القمعيّة المفروضة عليها.
3 - ويعد التهجين الثقافي من بين أهم الموضوعات في روايات ما بعد الكولونيالية، إذ تكشف هذه الروايات عن تمازج واختلاط الثقافات المختلفة التي حدثت نتيجة للاستعمار، وتتنقل الشخصيات في هذه الروايات عبر تعقيدات العيش في مجتمع تتعايش فيه تأثيرات ثقافيّة متعددة. وتحفل بثراء وتنوع الثقافات الهجينة وصراعاتها مع فكرة الهوية الثقافيّة الثابتة والمتجانسة.
4 - تلعب اللغة والتواصل دورًا حاسمًا في تلك الروايات، إذ تكشف عن ديناميكيات القوة المرتبطة باللغة، والطرق التي تم استخدامها بها كأداة للسيطرة خلال الحقبة الاستعمارية، ويسلّط مؤلفو هذه الروايات الضوء على أهمية استعادة اللغات الأصلية، والنضالات التي تواجهها الشخصيات في التعبير عن أنفسهم بلغة ليست لغتهم؛ لتصبح اللغة وسيلة للمقاومة ووسيلة لتأكيد الهوية الثقافيّة في هذه الروايات.
5 - كثيرا ما تتعامل هذه الروايات مع موضوعات التاريخ والذاكرة، إذ يحاول مؤلفو هذه الروايات التعمّق في الذاكرة الجماعيّة للمجتمعات المستعمرة، واستكشاف الطرق التي تستمرُّ بها الأحداث التاريخيّة في تشكيل الحاضر، والتأكيد على استعادة التواريخ والذكريات التي تمَّ تهميشها أو محوها من قبل القوى الاستعماريّة والحفاظ عليها.
6 - يعد عدم المساواة الاجتماعية والظلم من الموضوعات السائدة في روايات ما بعد الكولونيالية، إذ تعمل هذه الروايات على تسليط الضوء على الإرث الدائم للاستعمار، كالفوارق الاقتصادية، والتمييز العنصري، والتسلسل الهرمي الاجتماعي. كاشفة عن الطرق التي تستمرُّ بها هذه التفاوتات في مجتمعات ما بعد الاستعمار وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات، متبنية الدعوة إلى العدالة الاجتماعية ومناهضة الأنظمة التي تديم عدم المساواة.
7 - يعد الشتات والهجرة من الموضوعات المتكررة في تلك الروايات، كمحاولة للكشف عن تجارب الأفراد والمجتمعات الذين اقتلعوا من أوطانهم بسبب الاستعمار وتداعياته. إذ يبحث مؤلفو ما بعد الكولونيالية في تعقيدات هويات الشتات، والتحديات التي يواجهها المهاجرون في تنمية شعورهم بالانتماء إلى أراضٍ جديدة، ومدى مرونة المجتمعات الحاضنة وقدرتها على التكيّف.
ومن أبرز الروائيين الذين تُعد رواياتهم نماذج مضيئة في ما عرف بروايات ما بعد الكولونيالية هم: تشينوا أتشيبي (Chinua Achebe) وهو روائي نيجيري كتب رواياته باللغة الإنكليزية وتعد روايته (أشياء تتداعى) المترجمة للعربيّة من أهم الروايات الأفريقيّة، والكاريبيّة جامايكا كينكيد (Jamaica Kincaid) في روايتها (آني جون)، والهنديَّة أرونداتي روي(Arundhati Roy) في روايتها (إله الأشياء الصغيرة) الفائزة بجائزة البوكر عام 1997م، والكيني نغوغي وا ثيونغو (Ngũgĩ wa Thiong›o) في روايته (بتلات الدم)، والتنزاني عبد الرزاق قرنح الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 2021م وتعد رواياته (الفردوس) (ذاكرة الرحيل) من الروايات المميزة في هذا الأدب.أما على صعيد الرواية العربيَّة فيمكن أن نعد رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) للطيب صالح، ورواية (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، وبعض ما أنتجه روائيو المغرب العربي نماذج مضيئة في روايات ما بعد
الكولونيالية.