علي لفتة سعيد
كلّ شيء غريب يحمل دهشته معه، تلك حقيقة الاكتشاف الأوّل التي تظلّ عالقةً في الأذهان والذاكرة، وربما يكون لها تأثير كبير على الرؤية المستقبلية لمن تأثّر بهذه الغرابة الأّولية. وهو أمرٌ ينعكس على أيضا على الغرابة الأدبيّة حين نقرأ نصًّا غريبًا من بيئةٍ غريبةٍ فنجد دهشة الاكتشاف الأوّل قد أثّرت على لحظة التلقي، باعتبار الاكتشاف كان على أصل الغرابة البيئية، فضلّا عن دهشة الكتابة التي لا يتم فيها اكتشاف الأخطاء أو السلبيات، سواء على صعيد الخرائط المكانية أو الانتقالات الزمانية، كون المتلقي لا يعرف الخطوط العامة التي تشكّل المشهد الذي تلقّاه.
ولذا فإنه أي المتلقّي هنا يعيش مع عقدة الفضول التي تجعله يريد اكتشاف الآخر الذي يبقى في حالة غرابةٍ دائما، كونه غير مطّلعٍ على تفاصيل البيئة الجديدة، خاصة إذا تعدّدت البيئات في النصوص الأدبية من هذه الدولة أو تلك، حتى في المجتمعات الأوربية مثلا لا نجد تشابهًا بين البيئة الفرنسية والإسبانية مثلا، فيكون التلقّي عبارة عن محاولات ترميم الفضول للاطلاع على خفايا المجتمعات.
إن هذا الأمر ليس جديدًا فقد قيل من قبل، لكن الجديد هو إصرار الكثير من المتلقّين ومنهم الأدباء والنقّاد على عقد مقارنة بين إنتاجٍ من بيئةٍ أخرى، على إنتاجٍ محلّي، ليس من ناحية التدوين والإخراج الذي يصل على شكل كتاب أو فيلمٍ أو حتى أغنية، وهذه المقارنة ستؤدّي حتما بإلحاق الأضرار بالنصّ المحلّي والفن بشكل عام. لأن المقارنة لا تكتمل معادلتها الجمالية بقدر ما تؤدّي إلى زيادة السلبيات على النصّ المحلي، مثل الذي يزور مدينة مخطّطة هندسيًّا، فيقارن بينها وبين مدينته حتى لو كانت تاريخيَّة وجميلة لأنه في المدينة الجديدة يكتشف ما لم يكن قد رآه من قبل، ودون أن يضع في الحسبان إن البيئة التي جعلت المدينة الجديدة مخطّطة تختلف اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا وحتى دينيًا عن البيئة التي يعيش فيها.
لذا فإن الكثير يعجب بفكرةٍ أو حكاية روايةٍ أجنبية أو إخراج فيلمٍ سينمائي، وهو أمٌر طبيعي. فمثلا هناك من يعبر عن إعجابه بفكرة روايةٍ أجنبية عن صبيّ يطارد فراشاتٍ ويتبيّن أنه معاق ولادي، وأن الروائي يصوّر المنطقة التي يعيش فيها تصويرًا دقيقًا، فيلجأ المتلقّي لهذه الرواية أو حكايتها إلى عقد مقارنةـ فيقول إن الروائي كان متمكّنًا من متنه السردي وأنه صوّر بدقّةٍ الدواخل الإنسانيّة للصبي، وأنه تمكّن من نقل المشهد الجميل إلى الواقع الورقي... إلى آخر ما يقول، معبّرًا عن تأثّره بالرواية المترجمة. وهو الأمر الذي ينعكس على إخراج فيلم سينمائي حيث يعبّر عن قيمته الإخراجية العليا دون التفحّص المسبق والقلق المسبق والرأي المسبق والانتقاص المسبق الذي يضعه على النصّ المحلّي والفيلم المحلّي، حتى لو كان الفيلم الأجنبي مليئًا بالهفوات المكانية، التي لا يعرفها المتلقّي، بل أنه يقوم بتبريرها على العكس من قسوته مع النصّ المحلّي.
وهنا لابد من التنويه إن المتلقّي فاته أمر مهم وهو، لو كتب عراقيًا مثل هذه الرواية أو أخرج فيلمًا مثل ما شاهده لقامت عليه القيامة، كونه ابتعد عن بيئته وأن لا مجال لمطاردة الفراشات، وأن البيئة العراقية تخلو من مكانٍ فاضح الجمال لتأثّره بالحروب والطغيان والخسارات والجوع والانفجارات والإرهاب، وأن نصّه مليء بالأخطاء المكانية والخرائطية، وأن الزمن خاطئ حيث لم تجر الأحداث في ذلك العام، وقد وضع (روزنامة) كل القرون أمامه ليحدّد الخطأ، مثلما يضع مشرطه إن كانت هناك أخطاء طباعيّة أو تحريك الحروف بين الجمع المؤنّث ولم الجازمة، وهو أمرٌ لابد منه وصحيح في النقد، ولكن على ألّا يكون بقسوة انتقاصٍ مسبق، بل سيلجأ إلى القول المعروف، إن النصّ المحلّي هو الذي يؤدّي إلى العالمية. وأيضا تناسى أن ذاك الروائي المترجم لنا كتب عن بيئته ولم يستنجد ببيئةٍ أخرى أو انتقل إليها لأنه ايضا سيتّهم.. مثلما تناسى أن الأفكار والحكايات هي بنات البيئة، فمن غادرها غادر واقعه وصدق رؤيته حتى لو امتلك القدرة الفائقة على الكتابة واللعبة السردية. وإن البيئات الهادئة غير البيئات القلقة والمستباحة والمضطربة والمشتعلة بالحروب.على سبيل المثال. كلنا قرأنا روايات ماركيز وقد أعجبنا بها وهي روايات سرديّة عالمية لا مجال للمقارنة ولكن كم واحدٍ سأل من الذين يمسكون سكاكين النقد أن المكان الذي ذكره ماركيز يحمل خرائطه الصحيحة؟ وهل كان الزمن كذلك؟ وهو الأمر الذي ينطبق على روايات ارنست همنغواي وتشيخوف والقائمة الطويلة من الروائيين العالميين. وحتى الروائيين العرب الذين نقرأ لهم بما فيهم نجيب محفوظ.
إن البيئة الغريبة دائما تحمل دهشتها لكنها ليست بالضرورة أن تكون حاملة لجماليات الإبداع، فالنقد المخصص والإعلام قد يؤديان إلى الشهرة التي تؤدي إلى التأثير على الملتقّي ولنا في النرويجي يون فوسه الحائز على جائزة نوبل هذا العام حيث كنب أغلب مسرحياته بلغة نينوشك (أحد الأشكال الجديدة لكتابة اللغة النرويجية)لا يتحدّث فيها إلّا بضع مئاتٍ من الآلاف، لكن وقفت خلفه ماكنة أدت إلى ترجمة أعماله حتى من قبل العرب لأن المؤسسات تريد انجاحه وهو نجاح للدولة، ولم يمسك أحد معوله وفأسه وسيفه بل وصل الأمر إلى إشهار بندقيته لقتل النصّ المحلّي.