الوشوم (الموكو) الماورية
باســم فـرات
تختلفُ الوشوم اليوم عما كانت عليه سابقاً، وهي وشوم خاصة ، إذ تتفرد بها زي الجديدة “نيوزلندا”، وإن كانت لها صلة ما بوشوم جزر جنوب المحيط الهادئ (بولِنيسيا) وهناك اعتقاد بأنها جاءت من هناك. إذ إنَّ معنى الوشوم وعملية الوشم تختلف عما عليه الحال في (بولِنيسيا)، ولم يكن عمل الوشوم الـماورية يتم سابقاً بطريقة الإبر الشائعة في العالم، بل عملية حفر (نحت) في الجلد نفسه، وتُعدّ الوشوم الـماورية أعمق الوشوم على الجلد في العالم، وهذا ما كان عليه الحال قبل انتشار الثقافة الغربية متمثلة بسيطرة البريطانيين وما أحدثوه من تغييرات جوهرية في كل شيء.
ربما كان من السهل أن نطلق مصطلح “الوشم” على الوشوم الـماورية، ولكنها في الحقيقة تختلف اختلافاً جذريّاً عن الوشوم الغربية، لأنها ترتبط بالتراث والعقائد الاجتماعية، مثل الولادة والنسب والقبيلة والمكانة الاجتماعية للفرد، لأن المجتمع الـماوري مجتمع طبقي، يبدأ من أعلى قمة في هرم القبيلة وهو شيخها، وينتهي بالعبيد، وهم ممن تم أسرهم من القبائل الأخرى، ولأن الوشم (الـموكو) له قُدسية في معتقد الـماوريين، لهذا فإنَّ مَن يقوم بوشم الناس لا حق له في وشم جسده، مثلما لا يمكن لأي شخص أن يختار الوشم الذي يريده، بل عليه أن يقبل بالوشم الذي يتفق وترتيبه الطبقي. إذ كان الـماوريون يعرفون نسب بعضهم من خلال الوشم، فلكل قبيلة وشمها الخاص أيضاً.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الوشم الياباني عبارة عن منظر أو مشهد يُرسم وشماً على جسد الـموشوم، في حين أَنَّ الوشوم الغربية، وشوم لا تناسق بينها وفيها اختلافات، وأظن السَّببَ في ذلك لأنَّ الوشومَ الغربية ربما تكون محدثة ولا ترتبط بالتاريخ والتراث والثقافة العميقة للإنسان الغربي، وهي عكس ما عليه عن الإنسان الـماوري والياباني وإنسان جزء جنوب المحيط الهادئ (بولِنيسيا)، لكن الأمور بدأت تتغير مع تغلغل النفوذ البريطاني والأوربي في جسد المجتمع الـماوري، حتى أن الـماوريين راحوا يَشِمُون رؤوس عبيدهم بالكامل، ويقطعونها ويبيعونها للبريطانيين والأوربيين، لجني الأموال، وهذا ما يحدث حين تحتل ثقافة مدججة بالعلم والسلاح والتقنيات، ثقافةً عريقة بدائية كانت أم غير بدائية، أو ما يحلو لي تسميتها بالثقافات البريئة التي لوثتها مادّية الحضارة الغربية الـمتقدمة.
إن عملية وشم رؤوس العبيد بالكامل وقطعها وبيعها للأوربيين، بدأت في القَرن التاسع عشر الميلادي، حين بدأت عملية الاستيطان البريطاني في زي الجديدة، وكان الأوربيون يقتنون هدايا تذكارية في رحلاتهم، منها رؤوس آدمية موشومة وحيوانات يتم قتلها وحفظها بطريقة ما أو أجزاء من أجساد الحيوانات، هذه الهواية لتأسيس متاحف شخصية في بيوتهم تسببت بـمآسٍ وكوارث يَندى لها جبين الإنسانية مع الأسف الشديد.
جوزيف بَنكس (1743 – 1820) عالم النبات الشهير، جاء مع الـمستكشف (جيمس كوك) في عام 1770 ميلادية إلى “زي الجديدة” في رحلتهما “الاستكشافية” واشترى رأساً بشريّاً موشوماً، لم يكن الشخص الـماوري الذي كان يملك الرأس البشري الـموشوم راغباً في بيعه، ولكن عالم النبات وراعي جمعية العلوم الطبيعية البريطانية، اشتراه منه بالقوة والإكراه، وهذه أول حالة تُسَجّل عن شراء رؤوس بشرية موشومة وتم شحنها إلى بريطانيا، لتبدأ واحدة من أبشع عمليات التجارة الدموية مع الأوربيين.
في عام 1820 ميلادية، بدأ الـماوريون يبيعون الرؤوس البشرية الـموشومة للبريطانيين والأوربيين، لأنها أصبحت تجارة تدرّ منافع مالية مهمة لهم، وهذا يعني التضحية بأبرياء ، ليس لهم ذنبٌ إلَّا لأنَّ حظهم العاثر أوقعهم أسرى بيد قبيلة حاربت قبيلتهم، ليتم وشم رؤوسهم وقطعها وبيعها للأوربيين ليُزيّنوا بيوتهم ومتاحفهم الخاصة والعامة بها، وتلك رؤوس بشرية نُقلت من أقصى جنوب شرق العالم إلى أقصى شمال غربه، قد حملت معها أنين أمهات وزوجات وأطفال وأخوات وأحبة، لكن الجلادين والسفاحين والمنتصرين أذانهم صمّاء لا يسمعون بها النشيج والأنين والآهات، فهي تجارة آنية مربحة ماليـّاً، لكنها وسمةُ عار ٍتُلطّخ تاريخ الجنس البشري الموبوء بالدم والدمار.
تقليديّاً، كانت أدوات الوشـم من العظام، ولكن بعد دخول البريطانيين، تحولت هذه الأدوات إلى الـمعادن، وهو ما معمول به اليوم في العالم. ولأن الوشوم الـماورية ترتبط بالـمحرم والـمقدس، فهي تخضع لشروط عديدة منها، أن الواشِمَ – وهو شخص له مكانة كبيرة من الاحترام في الـمجتمع الـماوري – والـموشومَ كلاهما عليهما أن يلتزما بهذه الشروط التي منها تحريم بعض أنواع الأكل قَبلَ الـوشـمِ وبعدَه ، وأنَّ الـموشومَ لا يحق له تناول الطعام بشكل طبيعي، لهذا يتم وضع الطعام سائلاً في قمع (أنبوب) ليتناوله.
الوشم في الجبين له علاقة بمدى القدرة على القتال، وأما الوشم الذي يبدأ من الأنف إلى الوجنتين فله علاقة بالنسب وهذا وشمُ الرجال، إذ لكل وشمٍ رمزيتُه الخاصة، ولكن مع الأسف ضاعت معاني أغلب الوشوم. أما وشوم المرأة فهي ذات طبيعةٍ واحدة ، إذ تستنسخ المرأةُ وشمَ أُمِّها التي استنسخت وشمَ جَدَّتِها وهكذا لأجيالٍ سحيقة، ولهذا كان الوشم الذي تحملُه الـمرأة دالّاً على جذورها، وحين أقول “واحدة” أي أن كل أسرة لها وشم واحد تتناقله النساء عبر الأجيال.
يُعَدُّ حمل الوشم (موكو) واحداً من أعظم وأعمق الارتباطات الروحية للفرد في الثقافة الـماورية، فقد يخسر حامله ماله وزوجته وأسرته وبيته وكل شيء، ولكنه لن يخسر وشمه حتى الـموت، فهو أعلى مراحل الدفاع عن الهوية الـماورية، وليس اعتباطاً ما ذكرته الكاتبة “أريانا تيكاو” في كتابها “موكوروا” بأنها أصبحت تشعر بالغبطة والفرح بعد وشم وجهها، لأن أفرادَ الـمُجتمع الـماوري صاروا يتعاملون معها بوصفها ماوريةً مع ما يتبع هذا من احترام وتقدير عاليين، لا سيما أن ملامحها أقرب للـملامح الأوروبية.
إن عملية صناعة الأصباغ الخاصة بالوشوم، تدخل في نطاق المقدس والمحرم، لهذا يتعاملون معها بكل حذر وقدسية، وفي الثقافة الـماورية لدينا كثيرٌ من القصص والحكايات عن أبناء زعماء القبائل يطلبون من آبائهم أن يتم وشمهم بما تبقى من صبغ الوشم الذي وُشِمَ به الآباء، وهذا يعني اعترفاً من الأب بمكانة ابنه ومنحه (المانا) نفسها، أي يصبح الأبن بمثابة وليّ عهد لأبيه، فيتم النظر له مثلما يُنظر لولي العهد الـمبارك من قبل الأب.
حصلت بعض القبائل الـماورية على الأسلحة النارية، فأصبحت موازين القوى غير متكافئة، وهو ما اضطـرّ بقية القبائل الـماورية للحصول على الأسلحة النارية لخلق التوازن في القوى، وفي الجهة الأخرى، أصبح الطلب عند الأوروبيين على رؤوس الـماوريين الـمملوءة بالوشم في ازدياد عجيب، بوصفه شيئاً جديداً على الحياة الأوروبية، وهو ما جعل القبائل الـماورية تكثر من حروبها ومحاولة أسرِ أكبر عدد ممكن من أبناء الإخوة الأعداء، وقطع الرؤوس الـموشومة، أو وشم الرؤوس غير الـموشومة وقطعها وبيعها، وراحت السفن التجارية تبحر إلى سيدني في أُستراليا محملة برؤوس الـماوريين الذين أوقعهم حظهم العاثر أسرى عند أبناء عمومتهم وجلدتهم من القبائل الـماورية الأخرى.
لم تتوقف هذه التجارة الدموية، حتى أعلن حاكم جنوب ويلز الجديدة “نيو ساوث ويلز” في عام 1831 ميلادية، إيقافها ومنع وصول السفن الـمحملة بالرؤوس الـموشومة إلى موانئهم، وهذا أدى لحفظ دماء كثير من الناس، وفي الوقت نفسه تراجعت صناعة الوشم، ومع انتشار الـمسيحية على يد الـمبشرين البريطانيين والأوروبيين الذين كانوا يؤمنون بأن الثقافة الأوروبية هي أسمى الثقافات، أدخلوا في قلوب الـماوريين الـمعتنقين للـمسيحية نبذ الوشم التقليدي، والدين أسرع الوسائل للحب والكراهية، لأن الناس تحسب أن رجل الدين يحوز الورع والتقوى والمعرفة معاً.
تضاءلت حرفة الوشم، لدرجة كبيرة، وراح الـماوريون يقلدون الأوروبيين، حتى صرخ الـملك الـماوري “توكاروُتوُ ماتوتايْرا بُوُتاتاو تي فيروفيرو تافياو” في ستينياتِ القَرن التاسع عشر مطالباً الشعب الـماوري بأن يكف عن تقليد الباكهه، والباكهه كلمة ماورية تعني البِيض أي الأوروبيين والباكهة بباء أعجمية، لو طبّقنا عليها قواعد الترجمة العربية القديمة، بتحويل الباء الأعجمية إلى فاءٍ، فإنها تصبح “فاكهة”.
روا كِنانا هيبيتيبا (1869 – 20 شباط 1937 ميلادية) كان أحد أتباع “تي كوتي” الـمصنَّف بالخطير من قبل الحكومة، فأتباعه أطلقوا على أنفسهم اسم “إسرائيلي” في عام 1909 كان عدد زوجاته 7 وفي النهاية وصل الرقم إلى 12 زوجة وأنجب منهن جميعاً، أسس قرية خاصة به وزعم أنه أخ للسيد الـمسيح، ولأنه أصبح يُمثِّلُ تهديداً للحكومة، ومن أجل إضعافه، حاربوه في ما اختص وبرع فيه ، وهو مقدرته على إشفاء الناس بوساطة قوى روحية خاصة به مع استعمال الطب الشعبي الـماوْري، لهذا أصدرت الحكومة في عام 1907 ميلادية، قراراً يمنع الـمتعاملين مع الطب الشعبي والذين يمارسون وشم النساء، لأنهن مارسن وشم وجوههن حتى ذلك التاريخ، على عكس الرجال الذين تخلّوا عنه مبكراً.
وكان ذلك القرار ضربة قاضية لإنهاء الوشم (موكو) الـماوري في الـمجتمع الـماوري، واستمر الحال حتى سبعينات القَرن العشرين حين بدأ الاهتمام بالوشم الـماوري يتسلل للمجتمع مرة أخرى، وفي تسعينات القَرن العشرين أصبح شائعاً، أي مع صعود الهويات الصغرى والفرعية والثانوية التي اجتاحت العالم. ومما تجدر الإشارة إليه أن تصاميم الوشوم عند الـماوريين تُستمد من الطبيعة، وكل تصميم يُمثل حكمة ما، مثل السرخس (الخنشار) الذي يمثل حياة جديدة وانبعاثاً.
ينقسم الـمجتمع النيوزلندي إلى قسمين: هناك مَن يدعم الوشم الـماوري (موكو) ويراه يمثل خصوصية ماورية مع الغناء لم يستطع الاستعمار البريطاني محوهما تماماً، فالـماوريون يعشقون الغناء، ومن بين مَنْ يدعم “الـموكو” يقصره على الـماوريين فقط، ويرفض أن يَشِمَ وجهه أو وجهها مَن ليس ماوْريّاً أو ماوْريةً، لأنه كما أسلفتُ يدخل في ضمن الـمقدّس، وهناك مَن يراه حقًّا للجميع ، وما يزال الذين يَشِمُون أنفسهم يرونه ممثلاً للثقافة النيوزلندية الأصيلة، ولا يخلو الـمجتمع النيوزلندي من رافضي “الـموكو”، بل هناك مَن ينظر للـماوريين نظرة تخلو من الإيجابية.