حمّاماتُ السوق.. طقسٌ شعبيٌّ يرتدي ثوب الحداثة والتطوّر

ريبورتاج 2024/01/02
...

 رحيم رزاق الجبوري

تعد «حمامات السوق» جزءاً من حياة العراقيين وعاداتهم وتراثهم الشعبي القديم. ففي السابق نادراً ما تجد أحداً يمتلك حماماً خاصاً به. فكان ارتيادها مستمراً من قبلهم، ولهذا أخذت حيزاً كبيراً من ذاكرتهم الشعبيَّة وحكاياتهم وقصصهم بكل أشكالها المتنوعة؛ التي ارتبطت بهذا الطقس الشعبي الجميل.

ولم تسلم هذه الأماكن من زحف الحداثة والتطور باختلاف الأمزجة وتغيّر نمط أساليب الحياة وغيرها؛ حيث اندثر عدد كبير منها، وظل عدد قليل صامداً ومتمسكاً بجذوره ومحافظاً على العادات والتقاليد القديمة الشعبيّة.
فيما راح بعضهم متخذاً من الحداثة والتطور التكنولوجي الذي طال جميع المجالات، مستثمراً هذا المفصل والمزاج الشعبي العراقي لكي يفتح حماماً بخدمات مختلفة وبتقنيات حديثة، وبطراز لافت، يكسب به الجيل الجديد ويجذبهم لممارسة طقس شعبي جُبِلَ عليه الآباء والأجداد.

أسباب النشوء
ياسر العبيدي (باحث في الشأن التراثي والفلكلوري العراقي)، يذكر أهم الأسباب التي أدت لنشوء هذه الحمامات، وانتشارها الكبير في العراق، قائلا: «نشأت الحمامات بالعراق بسبب ضرورة الحياة.
وبفعل عدم وجود الماء وتوفره -وقتذاك- فكانت تُبنى هذه الحمامات وتتوافد الناس إليها على شكل مجاميع، في يومي الاثنين والخميس، ولها مواقد خاصة تعمل على بقايا الحيوانات والأشياء التالفة والمستعملة والخشب وغيره، يستخدمونها للحرق.
ويتكون الحمام من ثلاث مناطق، هي (المنزع) ويسمى (البشطمال) و(الوسطاني) و(الجواني)، وهذه تراتبية الدخول إليه من خلع الملابس مروراً في البقاء على دكة المرمر أو الموزائيك، وصولاً إلى الاغتسال بالماء ومن ثمّ التدليك.
وفي الفترة السابقة، كانت بغداد مزدحمة بالحمامات، بينما كانت أوروبا غارقة بالأوساخ والأمراض والأدران، فبلادنا عظيمة وزاخرة في كل شيء، منذ العصر العباسي، الذي شهد استمرار نهضتها في شتى المجالات.
ففي بغداد كانت توجد 7 حمامات في شارع الرشيد وحده، ومنها (بنجة علي)، و(باب الآغا) وحمامات في شارع غازي (الكفاح حالياً) والصدريّة، وعگد الأكراد، والتميمي، والكولات، وحمام حيدر، والملوكي في مدينة الكاظمية».

انتفاء الحاجة
ويضيف العبيدي: «بسبب التطور والحداثة، ووصول الماء لكل مكان؛ فقد تراجع ارتياد الحمامات من قبل الناس، وشيئاً فشيئاً اختفى الكثير منها واندثرت؛ بسبب أن أغلب البيوت باتت تحتوي على حمامات وجاكوزي وغيرها من الأمور التي توفر للأسر الراحة والنظافة والاستحمام الآمن.
ولم يبقَ إلّا عدد قليل منها يواصل تقديم خدماته.
وبعضها غير شكله وواكب الحداثة وطور مهنته من حيث البناء الجديد والشكل الجاذب والخدمات المتنوعة التي تلبي رغبات الجيل الجديد».

مخازن وأبنية
وفي ذات الصدد، يتطرّق نبيل عبد الكريم الحسيناوي (باحث في تراث وتاريخ بغداد)، إلى الحمامات التي طالها الهدم والاندثار، وإلى الأسباب التي أدت لذلك، إذ يقول: «لا تزال ذاكرتي تحتفظ بأسماء العديد من الحمامات الشعبيَّة التي ازدهرت في الفترات السابقة.
والتي بدأت بالأفول قبل ثلاثة عقود، وتهدم الكثير منها، وبعضها تحول إلى مخازن وأبنية وما شابه ذلك، في مناطق عديدة، منها: حمام الحميدي في گهوة شكر، وحمام الرافدين في شارع المتنبي، وحمام بغداد، وحمام الجمهورية في المهدية، وحمام النعيم، وحمام حيدر».

أثرٌ بعد عين
ويضيف: «أن أقدم الحمامات الموجودة حالياً في بغداد والتي تعرضت للهدم، وأصبحت أثراً بعد عين، هي: (حمام الباشا) الذي يقع في الميدان، وحمام المالح الكائن في الفضل، و(حمام السيد) الموجود في الصدرية، وكذلك حمام (حجي مهدي)، الواقع في الكرادة الشرقية.
أما الحمامات التي لا تزال تستقبل زبائنها وبقيت محافظة على تقاليدها وتراثها القديم، هي: (حمام الفضل والكولات)، و(المهدي في عگد الأكراد)، و(عقيل في الدوكجية)، و(البيضاء في حي سومر)».

عولمة
ويختم، الحسيناوي، بالقول: «لا شكَّ في أن الحداثة والتطور وانتشار المسابح وأماكن الترفيه الأخرى، فضلاً عن المساج والدفن بالملح، والجاكوزي، وتقليم الأظافر، وتنظيف كعوب القدمين، وغيرها من الأمور الموجودة في البلدان الغربية وتركيا؛ وتم استنساخها في العراق، لا سيما بعد 2003، وهذه أسهمت في اندثار الحمامات الشعبيَّة القديمة، التي كانت تقدم خدمات بسيطة، لكن ذكرياتها بقيت راسخة في مخيلة العراقيين، وجلساتهم وأحاديثهم الطريفة التي كان الحمام شاهداً عليها».

تراث عريق
يتحدث الكاتب عماد مجيد المولى، عن حمّام الحاج مهدي الذي يقع في كرّادة الرصافة، وغيبته السنين والحداثة، وتغير طباع الناس، قائلا: «هذا الحمام من أشهر حمامات بغداد العامة القديمة العهد بجانب الرصافة، في الكرّادة الشرقيّة محلة البو جمعة (البوليسخانة) قرب دائرة البريد، وشيده الحاج مهدي الصفّار وهو من أسرة الصفار (واحدة من أعرق الأسر الكراديّة البغداديّة) استأجره في بداية تأسيسه خزعل الجليل العباسي والد الضابط عبد الحافظ خزعل العباسي، ثمّ تولى إدارته (فائز) نجل مشيده الحاج مهدي فسمّي باسمه.
ثم أعيد فيما بعد إلى اسمه السابق.
ويعد هذا الحمام أقدم حمّام شعبي في العراق، وأنشأه الحاج مهدي العام 1936 وأداره ابنه فائز، وصولاً إلى الحفيد عبد الله فائز مهدي الصفّار الذي يشرف عليه حتى قبيل
إغلاقه.
ومساحة الحمام 480 مترا مربعا يتوسطه تمثال للحاج مهدي نحته النحّات العراقي الأشهر خالد الرحّال وأهداه للحمام.
ومن الواضح أن الرحّال كان يقضي بعضاً من أوقاته فيه».

حادثة فريدة
ويضيف: «أن الارتباط بالمهنة والهوية؛ هو من حافظ على اسم هذا المعلم التراثي وبريقه، الذي امتدت به السنون ليصبح علامة في تاريخ مدينة، ولا يمكن التنازل عن ذلك بتحويله إلى نشاط آخر، أو إغلاقه أو التفكير بالربح المجرد، وهذا ما يوضح الحادثة التي رواها السيد عبد الله الصفّار مالك الحمّام، قائلاً: جاءني المرافق الأقدم لصدام -وقتذاك- أرشد ياسين وطلب شراؤه ليكون خاصاً بصدام.
حينها رفض عبد الله بيعه أو تسلّم النقود.
وأوضح بأنَّ هذا ليس مبنى عادياً في بغداد وهو تراثي وتاريخي ومعروف في المنطقة العربيَّة، وقال له بالحرف: (إذا تريد أن تأخذه فخذه؛ لكنّي لا أقبل النقود).
فاصطحبه أرشد، إلى صدام، وأعاد عليه ما قاله، فأجاب صدام كما يذكر الصفّار: «أحترم موقفك وانسَ الموضوع».
وعلى وقع أصوات ملاعق الدارسين وبخار الماء والأبوذيات وأصوات الرجال والنساء يغادرنا هذا المكان المليء بروح بغداد وحكاياتها الجميلة ليتبقى لنا حمامان في مدينة كان فيها سبعة وعشرون ألف حمّام عند مطلع القرن العاشر الهجري في بغداد وحدها؛ بينما كانت 5 حمامات فقط في قرطبة».

عوامل طارئة
ويلفت علي كاظم العقابي (كاتب وقاص)، إلى عوامل مهمة طفت على السطح في هذه الفترة، وأدت إلى اندثار هذه الحمامات، إذ يقول: «إن للحمام الشعبي طقوساً خاصة ومميزة وقد تختلف من منطقة إلى أخرى ويزورها الجنسان على مدار العام، وارتبطت بذاكرة العراقيين على مدى عقود من الزمن.
ونظراً لإيقاع الحياة المتسارع والتطور في البناء والعمران والمزاج، وتزايد أعداد الناس والاهتمام بالجانب الصحي بفعل انتشار الأمراض المعدية؛ بدأت هذه الحمامات بالتلاشي.
وأسهمت كل هذه الأمور وغيرها بطمس معالمها، فضلاً عن التطور الهائل في توفير أماكن السباحة الحديثة من حمامات تعمل بالأجهزة الحديثة، وتوفر أحواضاً حارة وباردة، وساونا، وجاكوزي، فضلاً عن وجود أماكن خاصة تتيح الحرية الكاملة للشخص أن يتمتع بجو أفضل وأنقى وأنظف من الحمام الشعبي.
كما أنَّ هوس النظافة الذي طرأ وطغى على الناس، وخوفهم من الأوبئة وعدم الاختلاط، ونمط الحياة الجديدة بعدم توفر الوقت؛ فلهذا أتاحت الحمامات الحديثة هذه الميزة والبقاء لأوقات قصيرة بسبب التزاماتهم ومشاغلهم الكثيرة».

أسلوب جديد
إلى ذلك يذكر أسامة مهدي شواي مدير (حمامات باشوات بغداد)، إلى تطور هذا الطقس الشعبي القديم، وتأثره بالحداثة ومجاراة التطور الحاصل في هذا المضمار، إذ يقول: «اشتهرت المدن العراقيَّة، ولا سيما القديمة منها، بحماماتها الشعبيَّة العامة، والتي كانت تشهد إقبالاً واسعاً من قبل الناس.
وما زالت بعض الأحياء العراقيّة القديمة تحتفظ بحماماتها.
إلا أن تطور الزمن، جعل الكثير يفكر بمواكبة العالم، بتقديم خدمات تلائم متطلبات الزبائن؛ من ساونا ملحيَّة وبخاريَّة، وجاكوزي حار وبارد وتدليك وحلاقة متكاملة ومساج بالزيوت والكريمات وتنظيف البشرة بجهاز الهايدروفيشل، فضلا عن توفر قاعة للألعاب الرياضية والحجامة، فضلاً عن تقديم المشروبات المعتادة من الدارسين والشاي والقهوة وغيرها، وهذا ما نقدمه في حمامنا الحديث».

مواكبة التطور والحداثة
(حمام السلطان التركي) من أوائل الحمامات الحديثة في بغداد لصاحبه حيدر النجفي، ويُديره يونس الكرخي، الذي يقول: «إنَّ الحمامات التي تنتشر على ضفاف دجلة والتي شيّدت جميعها على الطراز العباسي القديم، بدأت بالاندثار ولم يبقَ منها سوى عدد قليل.
لكنها مثل غيرها من معالم بغداد ذات الطابع العربي، بدأت بالتلاشي تدريجياً من أصل 67 حماماً في بغداد.
وقد تمت عودة الحمامات الحديثة للظهور في الشارع البغدادي، بافتتاح حمام السلطان التركي في منطقة اليرموك بتاريخ 2015، علماً أنَّ الحمامات الحديثة مشابهة للقديمة في بعض التفاصيل.
لكنه تمّ استحداث بعض الأمور الجديدة، مثل الدفن بالرمل، وبالملح، فضلا عن الجاكوزي الحار، وتوفر أحواض الماء البارد، والانتقال من الحرارة إلى البرودة الذي ينشط الدورة الدموية لجسم الإنسان.
كما لا يقتصر عمل الحمامات الحديثة على صابون الغار فقط؛ بل استحدثت حمامات عديدة، كالحمام المغربي، الذي يستخدم فيه 9 ماسكات للجسم والشعر والوجه، فضلا عن استخدام الصابون المغربي وطين البحر الميت، وملح البحر الميت».