بحوث الإذاعة والتلفزيون
عدنان طعمة
يعد علم المنطق هو العلم بالقوانين التي تنظم الفكر الإنساني وطريقة التفكير لمنع تلك العملية من الخلل وسقطات الزلل. فإذا أخطأنا في المقدمات أو في التصورات المبدئية والملاحظات الدقيقة الأولى موضوعة البحث، أخطأنا في النتائج لا محالة، فالمقدمات الخاطئة هي حاضنة النتائج غير الصائبة. فكان من الضروري أن نتفق على أسس وقواعد هي من متطلبات البحث العلمي والفكر النقدي الموضوعي، لكي نتخاطب باللغة والأدوات والاشكاليات وذات المنهجيات، التي تخوض في مجالات العلوم و المعارف. وما سوى هذا فهو يعد من السفسطات التي لا قيمة.
وكما قال أرسطو “من لا يحس ولا يعرف قيمة المنطق لا يقف على قبري «إذ لم تتقدم علوم البشرية في تاريخ تطورها، إلا انطلاقا من المنطق السليم، الذي نظم مناهج العلوم وأعطى لكل علم ما يناسبه من منهاج أو مناهج، ولذلك يمكن أن نقول بأنه، لا يمكن وجود منطق بلا مناهج بحث، ولا مناهج بحث بلا منطق.
وبرأي جون ديوي في مؤلفه (المنطق نظرية البحث – ترجمة زكي نجيب محمود) فإنَّ النظرية المنطقية تختلف باختلاف الأساس الذي ينبني عليه العلم في العصر المعين، فكلما غير العلم من أساسه، تغيرت معه نظرية المنطق، وذلك لان المنطق هو إلا تحليل لمفاهيم العلم وطرائقه، تحليل يبرز صورها، فقد كان العلم عند اليونان قائما على فلسفة بعينها في الوجود، وجاء المنطق الارسطي صورة أمينة دقيقة له، فاذا كان العلم المعاصر يقوم على أساس مختلف أشد الاختلاف عن أساس العلم اليوناني، تحتم أن تتغير النظرية المنطقية تبعا لذلك.
كما كان المنطق الارسطي متوافقا مع العلم عند اليونان، كان من العلمية والتطور المنهجي أن يقوم استاذ مادة المناهج في كلية الاعلام بجامعة بغداد أن يجد منطقا أرسطيا وفلسفيا متوافقا مع منهجيات البحوث الاعلامية المعاصرة، فطرح في ميدان البحث والتقصي والاستنباط مولوده الجديد (تطبيقات علم المنطق في بحوث الإذاعة والتلفزيون).
وهو ما نجده في البراجماتية باعتبارها، والرأي لجون ديوي، ألصق الجماعات الفلسفية المعاصرة بتيار العلم، إذ إنها تنظر إلى القضايا المنطقية على أنها وسيلة إلى بلوغ هدف مقصود. ولما كانت الوسائل بشتى ضروبها لا توصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها مؤدية وغير مؤدية، فكذلك لا توصف القضية المنطقية بأنها صادقة أو كاذبة، بل بأنها مؤدية إلى الغرض المقصود أو لا، وهذا ما اقتفى أثره العلمي ربطًا منطقيًّا هذا المطبوع “الفلسفي المنهجي”، رابطًا فيه أدوات المنطق الارسطي ببحوث الإعلام، فاذا كانت الآراء البحثية غير عملية، فهي بالبداهة خارج عن مجال المنطق.
في تصنيفه للعلوم اعتبر ارسطو المنطق آلة للعلم وأداة للبحث في شتى ميادين المعرفة، بينما اعتبرت الرواقية المنطق علما له وجود حقيقي، إذ اعتبروا المنطق جزءا من الفلسفة التي تنقسم عند الرواقيين إلى العلم الطبيعي والجدل والأخلاق، والجدل هو المنطق. أما في العصور الحديثة، فقد أعتبر ديكارت المنطق منهجا أو بمعنى أدق فنًّا عقليًّا، يصل بنا إلى الحقيقة. يعتبر المنطق من العلوم المعيارية، فالقيم ثلاثة أنواع، قيم الاخلاق والجمال والحق، الأول تقرر خيرية فعل الإنسان، والثانية تقرر جمال أثر فني، أما الثالثة فهي تقرر صحة وحقيقة فعل عقلي، ويؤديه المنطق.
لا شك أن جميع الدراسات الفلسفية والعلمية مدينة بالشيء الكثير للبحوث المنطقية، سواء كان ذلك في مجال الفلسفة والرياضيات والفيزياء والبيولوجيا وغيرها من العلوم، واليوم يأتي كتاب الدكتور رعد جاسم الكعبي ليربط المنطق بمناهج الأعلام الحديثة، ويفتح المجال واسعا في وضعه لأنظمة منطقية مختلفة القواعد والأسس والأفكار.
ينير الباحث الطريق لنا في تجدد وتحديث علم المنطق، والكشف أن علم المنطق لم يعد منطقا ارسطيا وحسب، بالرغم من كونه يعد القاعدة الأساسية لجميع العلوم، إذ استخدم طريقة التحليل المنطقي العلمي في تحليل الأفكار المنهجية وتعريفها وبيان الغموض ومعالجة ظهور المتناقضات والملابسات في الأبحاث العلمية، مبينا أن علوم الإعلام والاتصال تعتمد على منطق يتماشى مع مركباته ومميزاته ووظائفه. يقول الباحث: (استوقفني منذ مدة، فكرة تطبيق قواعد علم المنطق على اجراءات بحث الاذاعة والتلفزيون، فما دامت هذه الاجراءات معروفة ومحددة فان عرضها على قواعد علم المنطق سيحدد الى حد كبير في ما إذا كانت صحيحة أم لا، ومنه سنعرف اذا كنا على الطريق الصحيح أم لا؟ الخطوة الأولى تتمثل في أن نعرض هذه الاجراءات على قواعد علم المنطق، أما الخطوة الثانية فهي أن نعالج جوانب الخطأ إن وجدت.. وعن مراجعة قواعد علم المنطق وتكييف الاجراءات معها يحتاج إلى وقت وجهد وتدبر، لذلك فان هذا الكتاب يعطي للباحثين فرصة لمعرفة الإجراء المتوافق مع قواعد المنطق وكيفية معالجة الخطأ فيه).
يسعى المؤلف في هذا الكتاب الى نشوء تخصص علمي ناضج في مجال بحوث الصحافة الاذاعية والتلفزيونية، يتحدد عادة وبشكل أساسي من خلال مجموعة المفاهيم المنطقية وقوانينها ونظرياتها في وحدة مع بعضها والتي سوف يكتسبها “الباحث الاعلامي” من خلال تعليمه التخصصي، وإن هذا النسيج الذي طرحه الدكتور رعد جاسم – نسيج المنطق وبحوث التلفزيون – يخبر المنهجيات المتبعة بماهية المنهجية الجديدة، ويحدد في ذات الوقت المشكلات التي لاتزال بحاجة إلى اهتمام تخصصي دقيق خارج النسق المنهجي المتعارف عليه، وفي ذلك تصريح للمؤلف وليس تلميح بقوله (قد لا يفهم البعض ما أردت ولكنهم في يوم ما عندما يدركون الحقيقة، سيعرفون ما أردت ويندهشون).
يقول فؤاد زكريا، إذا كان كثير من المؤرخين يتخذون من اراء الفلاسفة القدامى نقطة بداية العلم، ومرد ذلك أن هؤلاء الفلاسفة قد تفوقوا على غيرهم في التساؤل والبحث عن الأسباب، لذلك فان الباحث مؤلف هذا الكتاب المنهجي قد بزغت في عقله العلمي طائفة واسعة من الأسئلة، فالسؤال المنهجي المبدئي هو طرف الخيط الذي قاد الى عدة اسئلة متلاحقة، إذ إن الكتاب بمجمله يرتكز على ثنائية “السؤال والجواب” إذ يطرح الدكتور رعد جاسم الكعبي سلسلة من التساؤلات والاجابات؟ هل يستطيع الباحث أن يتخلى عن الإجراءات وتعريفات المصطلحات؟ هل تضع أم تختار التعريف الاجرائي؟ مستندا بذلك إلى علوم المناهج لمعالجة جميع الأسئلة المتعلقة بعالم البحوث الإعلامية، ويمكن الاستدلال عليها بالدليل المنهجي الذي يضيء منطقة السؤال بالجواب الدقيق.
وفي باكورة هذه التشكيلة الاستفهامية يستهل الباحث متن مؤلفه بـ “لماذات” محددة وهي: لماذا نطبق مفاهيم المنطق في بحوث الاذاعة والتلفزيون؟ كيف نطبق مفاهيم المنطق في بحوث الاذاعة والتلفزيون؟ كيف نتأكد ان مفاهيم التطبيق كانت صحيحة؟
يجيب الباحث على هذه الاستفهامات الثلاثة: يعد المنطق أداة عقلية تقرر بموجبه أن ما عملناه كان صحيحا أم لا، وهذا المنطق يستخدم في علوم أخرى، للتأكد من صلاحية إجراءاتها، ويتساءل هنا: إذا كان كذلك فلماذا لا يطبق في الاعلام؟
ويضيف في معرض اجابته على هذه التساؤلات، يفترض ان كل كلمة لها معنى معين، وتقاس بطريقة معينة، أي يجب أن تعطى دلالة واحدة فقط، ولا يجوز أن تعطى أكثر من دلالة.
أعتقد أن هذا البحث العلمي ذو أصالة علمية واسهام رائد في مجال بحوث الاعلام والاتصال عموما والاذاعة والتلفزيون خصوصا، لأن قدم لعالم المنهجيات بحثا أصيلا وتفسيرات جديدة لأفكار بحثية معروفة مسبقا وأعاد طرحها من زاوية منهجية أخرى لم يسبقه باحث في طرح موضوعات بحثه المختلفة.