د.جواد الزيدي
صدر للباحث الدكتور زهير صاحب كتابه الجديد ا(الفنون الفرعونية) عن دار الرافدين بواقع 400 صفحة من القطع المتوسط الذي أهداه إلى الشعب المصري مبدع أعظم حضارة في تاريخ الفكر الانساني، مُشيراً إلى أن بعض الحضارات دارت حول نفسها ألف مرة، وبدأت باجترار أفكارها وفنونها، بينما انبثقت الحضارة الفرعونية (وادي النيل) من وسيطها البيئي، وهي محملة بمواصفات خاصة تتبدى على شكل موسوعة ضخمة من الأشكال الرمزية التي كانت بمثابة العقار العلاجي لإسكات ذلك القلق الوجودي، الذي يتحرك في فضاءات التداول الاجتماعي.
ومثل كل الحضارات الناشئة آنذاك ابتدأت الحضارة الفرعونية في منجزها الثقافي بعصر القرى الزراعية الأُولى، الذي اشتملها الفصل الأول من الدراسة، حيث وضع إنسان هذا العصر الأسس الأولى في بنية الفكر الحضاري بإحالة إشكالات الفكر الاجتماعي إلى منظومات شكلية، وإزاء هذا تنوعت خبرته القائمة على التجريب.
ولأن الفنون رافقت نشأة الانسان منذ وجوده الأول، فإن الفصل الثاني اختص بدراسة عصر فجر الحضارة والتحولات المهمة، التي رافقت تراكمات الفكر الانساني بشكل عام للوصول إلى مجتمع متحضر نما نمواً متسارعاً متخما بالمستجدات والابداعات والمفاجآت الحضارية التي أدهشت العالم آنذاك، وما زالت تدهشه حتى الآن من خلال المكتشفات الأثرية، التي يتم العثور في بعثات التنقيب والدرس الأركيولوجي، وكان المفصل الأساسي في بنية حضارتهم هو اختراع الكتابة والتدوين عند منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، من خلال خصائص الخط (الهيروغليفي)، أي خط النار المقدس.
وهذا الاختراع مدعاة لتسمية أول مجتمع متمدن في تاريخ الفكر الحضاري.
بينما اهتمَّ الفصل الثالث بالسياق التاريخي ومحركاته المعرفية، من خلال مقولات الزمان والمكان التي تُعد الستراتيج المهيمن على خطاب الابداع الفني بما يحمله من دلالات بوصفها رسائل إلى الآخر.
وقد هيمنت الأفكار الدينية المتداولة في الفضاء الاجتماعي واتسمت بها المنجزات الفنية، ومنها حضور الآلهة الوهمية التي تمت أنسنتها على هيئة بشرية أو إحالتها الحيوانية وأخرى مركبة من صفات عدة.
فالفن في الحضارة الفرعونية كان بمثابة التمثلات الصورية، لتلك الحزم الفكرية الناشطة في حركة الفضاء الاجتماعي وأفكاره ويقينه الشعبي.
في حين كانت مشاغل المؤلف في الفصل الرابع دراسة الأنساق المعمارية الجميلة الممثلة لتلك الحضارة وابراز خصائصها الجمالية، التي تلتقي عندها (الصنعة والابداع) من خلال (العمارة والفن) في أبهى تجلياتها، إذ كان النسق المعماري مُركباً من منظومة العلاقات الرابطة لمجموعة العناصر البنائية، وتأتي أهمية كل منها من التفاعل والتناغم مع العناصر الأخرى، لتعقد مقترباً بخصائصها التعبيرية الجميلة ومماثلة المنحوتات واللوحات المتفردة في الصياغة لأي عصر من العصور.
بيد أن المساحة الأكبر اهتمت بأبنية المعابد طبقاً لطبيعة المنشآت المعمارية التي تتوافق مع الرؤى الفكرية التي تحكم حياة الفراعنة آنذاك وترتكز على التقابلات الضدية، فقد وجدت الكثير من القاعات المُظلمة التي يحيطها السحر والغموض ، تتجاور مع أنساق في ساحات تسطع فيها الشمس، وفي ذلك نوعاً من التشفير الرمزي عن فكرة تخفي الآلهة في دهاليز المعابد المظلمة، وظهورها من العدم في وضح النهار، حتى يعجُّ الفضاء الخارجي باحتفالات الناس في المناسبات الدينية والاجتماعية.
أما أبنية القصور فقد اكتسبت هيبتها المصطنعة بموجب قائمة طويلة من الممنوعات سنَها الملوك تعبيراً عن أناهم المتعالية التي تتجاوز الفعل الانساني.
وهذا ما اتسمت به مقابرهم المبالغ فيها، كونها تحتوي أجساد ملوك بمستوى الآلهة.
ولأهمية فن النحت، بوصفه خصيصة الحضارات القديمة فقد أفرد الفصلان (الخامس والسادس) لتتبع تطور هذا الفن وموازنته بين المادي والروحي، فضلاً عن تجاوز فنونهم الفنون الأُخرى من حيث الكم والكيف وسمات الضخامة التي تتميز فيها ونزعتها الهندسية الماثلة في تلك التماثيل التي جسّدتِ الحياة الفكرية والاجتماعية ومحاولة النحات الفرعوني محاكاتها مثل (رياح الخماسين) التي كانت تهب عليهم في فصل الربيع وخوفهم منها والعمل على تجاوز شرورها ومآسيها، لذلك تحمل منحوتاتهم دلالاتٍ روحية، ففضلوا نحت تماثيلهم والجداريات النحتية بوصفها (تقنية) مناسبة لاكتشاف صور آلهتهم الوهمية، واظهارها على شكل صور مرئية بغية مسرحة دراما طقوسهم الدينية.
وفي منحى آخر نحتوا تماثيل ملوكهم من أجل تخليدهم، أما تماثيل الأفراد، فكانت مساحة لمعالجة القلق الوجودي الذي يقترن بالأفكار الدينية أو
الاسطورية.
وانشغل الفصل السابع بالرسوم الجدارية التي نُقشت على جدران المعابد وتقنيات الرسم المرافقة، التي عرفها العالم عن الفراعنة والرسم على البردي، الذي استمر حتى الوقت الحاضر، ومصادر الألوان، التي يستخدمونها آنذاك التي تستخرج من الطبيعة، مثلما يتم استخدام المادة الخام ومرجعها الواقعي، تلك التي استلهمت موضوعات الواقع الاجتماعي، اتساقاً مع الأعمال النحتية تستلهم الموضوعات والظواهر التي كانت تعتري الحياة وتؤثر فيها لتكمن انزياحاتها في الفنون
المنجزة.
ولذلك تتسم تلك الأعمال في حقل الرسومية أو النحت بسمات شكلية ناتجة من طبيعة الحراك الفكري على مستويات الحياة الاجتماعية الواقعية أو المعتقد الديني القائم على تفضيل الحياة الأخرى على الحياة الدنيا، بما تفرضه فكرة الخلود لديهم من معتقد بأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، التي تسجل مفارقتها رؤية الحضارات الأخرى لفكرة الخلود نفسها مثل الحضارة العراقية
الرافدينية.