وجدان عبد العزيز
من العنوان اعلاه استطاع الكاتب الدكتور محمد شفيق شيا أن يثبت لنا بأدلته أن هناك علاقة جدلية قائمة على الواقع الفعلي بأن الجديد موجود بنسب متفاوتة (وبمقدار ما تستدعي وجوده الحاجات والتحديات القائمة في الواقع الفعلي)، ونحن ندرك أن الواقع واحدٌ بذاته، وأن الانتاج الانساني مجموعة مرايا تمثل ذلك الواقع، وبالتالي اثبت الكاتب أن الأدب الفلسفي أدبٌ أولٌ ثم أنه فلسفي، فهو اذ يلتزم، يتمثل في الادب، رواية ومسرحا وشعرا، أدبا يحمل بعدًا فلسفيا ويبقى مع ذلك، او ربما هو يحمل من الفلسفة تلك الـ(لماذا) المقلقة، أي أنه يحمل من الفلسفة آفاقها وقضاياها وتحدياتها، وهو لذلك فلسفي، بينما يبقى له من الفن جماليته وتفرده وأصالته، وهو لذلك أدب، وما دام الأدب يلتزم بقضايا الإنسان العميقة، حتى أصبحت هماً دائم الحضور في المضمون والشكل، حيث قال المؤلف الدكتور محمد شفيق شيا: (إن طرفي العلاقة: الأدب والفلسفة كانا على الدوام متجاورين حتى في أعمال "نظرية الأدب" الكلاسيكية، لكنه لم يتح لذلك التجاور أن يجد صيغته الفعلية)، وبقيَّ المؤلف يعطي أدلته على إبداعات الإنسان عبر مسارات تاريخه الثقافي، ليثبت انعكاس هذا على وعي الذات، حيث أسماه مستوى المشروع الفلسفي، ومن ثمَّ أثبت أن لكلِّ إنسان من الحياة موقفًا أي فلسفته الخاصة، يقول هيجل: (العصر مستوعب في فكر)، وبالتالي حاول المؤلف إثبات أن مفاهيم الفلسفة وقضاياها ورؤاها تضرب عمقا في جذور حياتنا كما في مظاهرها، لا بالمعنى المطلق وحسب، بل وبالمعنى العملي، وبما أن الفلسفة تكون أساساً في تشكيل حياة الناس ولها ضرورة.. اذن تكون ضرورة في علاقتها بالفن والأدب والعلم وشتى صنوف المعرفة، وهي ليست ثابتة، بل تتغير وحقب التاريخ، بحيث تجعلنا نقول انها ليست مطلقة إلى الحد الذي تكون معه ثابتة مطلقة لا تتبدل، وأن الفلسفة لها فعل كفعل الفن، ودلائل الإثبات أن الفلسفة لا تنبت في السماء، إنما هي تنبت في الأرض ولها مسارات تاريخية، إنَّ لكل حقبة تاريخية فلسفتها الخاصـــة، وضرب المؤلف مثالًا بين الحرية في المجتمع الاشتراكي والحرية في المجتمع الرأسمالي واستحصال رأيه الفارق بينهما هو فارق فلسفي، وهكذا
أثبت أن الفلسفة هي مع المسار التاريخي والواقع والأدب والفن لا يمكن فصلهما عن الواقع والحياة ومسار التاريخ، وإن لكل إنسان فلسفته الخاصة، ولا يمكن
(رد الإبداع الفني والأدبي إلى عوامل محددة بعينها، كأن نرد إبداع ابي العلاء إلى عماه، أو إبداع بتهوفن لصممه، أو عبقرية هيدلون إلى جنونه، بمعنى أن العملية الإبداعية لا يمكن ردها، كون هذه العملية تركيبا ديناميكيا حيا ودائما، كالشخصية الإنسانية لها معطيات خارجية وداخلية.. لذا فالحضارات والثقافات والمجتمعات والأزمنة والفلسفات المختلفة كانت تعيد صياغة
الأدب.. وهكذا حمل لنا كتاب (في الأدب الفلسفي) للدكتور محمد شفيق شيا أفكارا جميلة لصياغة علاقة الادب بالفلسفة تستحق القراءة، وعبر تمهيد، حيث الباب الاول وضم أربعة فصول، والباب الثاني ضم خمسة فصول، وفي النهاية الخاتمة..
فبحسب كونديرا فإن كلا من الفلسفة والأدب عملتا جنباً إلى جنب على تأسيس الحداثة الغربية، فإذا كان التأسيس الفلسفي للحداثة قد جرى على يد الفيلسوف الرياضي ديكارت - وذلك في القرن السابع عشر الميلادي- الذي جعل الذات المفكرة الواعية أساس كل شيء، وذلك من خلال مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، حيث حدد ديكارت مهمة هذه الذات المفكرة في اكتشاف الكون وحل ألغازه، فإن دور الراوية كان قد تمثل في سبر أغوار النفس البشرية والحفر في أشواقها وآمالها التي لا تقف عند حدود المادة والطبيعة[12].
مارس الإنسان التفلسف منذ القدم، وذلك سعياً منه لفهم أبعاد وجوده بجميع مستوياته الأخلاقية والمعرفية والاجتماعية، وقد اتسمت الفلسفة التقليدية بمداها النسقي، أي أنها لم تترك مجالاً إلا وأخضعته لنمط سؤالها العام، فأفلاطون -على سبيل المثال- كان قد أدخل في كتاباته تصورات عن العالم الطبيعة والإنسان والمجتمع، فتحدث في كتابه الجمهورية عن الرياضيات والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والأدب، بحيث لم يترك مجالاً إلا وضمّنه في نسقه الفلسفي[1].
إلا أن الأدب احتفظ لنفسه بإيقاع ومنطق خاص به، استعصى على الاحتواء من قبل الفلسفة
النسقية التقليدية، فالكتابة الأدبية باعتبارها شكلا خاصا من أشكال التعبير، سواءً كانت شعراً أو مسرحاً أو رواية، لها
تراثها ورموزها وأشخاصها الذين صاغوا معالم الفكر الإنساني بجانب الفلاسفة[2].
يمكن القول إنه بالرغم من التساكن والتعايش اللذين عرفتهما العلاقة بين الأدب والفلسفة، إلا أن هذين الحقلين المعرفيين كانا دائماً في حالة صراع، فكل نمط يعدُّ نفسه قد قطع شوطاً في سبيل تلمس الحقيقة يما لم يفعله النمط الآخر، وهذا بالتحديد ما جعل أفلاطون يستبعد الأدباء بشكل عام والشعراء تحديداً من
جمهوريته.