حازم رعد
تشكل الهويَّة مفهوماً مركزياً في الدرس الفلسفي، إذ تقع مقسماً لموضوعات عدة يتناولها هذا اللون من الدراسات «الفلسفية» من قبيل الأنا والآخر والحرية والكينونة والماهية وحتى الجوهر، فقد تكون الهوية رديف الجوهر إذا نظرنا إليها من جهة كونها معلم رئيسي في تشكيلة الذات الإنسانية.وقد تناوبت الأنساق الفلسفيَّة سواء المثالية منها أو الوجودية على بحث الهوية، ولكلا الاتجاهين آراء وتصورات عن المفهوم. والهوية بشكل عام هي كون الشيء هو ذاته، وليس شيئا آخر، فهي مجموعة السمات والصفات التي تشكل معالم فرد أو مجموعة ما، فمن خلال تلك الخصائص يشار إلى الذات ويمكن توصيفها وبيانها والتعامل معها.
فهي هي [حقيقة الشيء المطلقة، والتي تشتمل على صفاته الجوهريّة التي تميّزه عن غيره] وتعرض مجموعة من العوامل الرئيسة تشكل مفهوم الهوية بمعنى أنها ما يصنعها وهي:
1 - الوعي: فهي تتأسس على وعي بالذات ويقظة بها، فاذا حضرت الذات حددت الغيرية والوعي بالذات، والواقع شرط أساسي في تشكل الهوية، إذ من خلالها تدد الذات رؤيتها وتصوراتها عن الحياة والعالم واشكال النشاط في اليومي.
2 - المسؤولية: واذا كان هناك وعي بالذات وحرية تبرز المسؤولية كموقف يستشعره الفرد عند كل حدث، يتطلب من الإنسان وقفة وتحديد موقفه منه، وهنا تكون الأفعال والممارسات القائمة على الوعي بالذات والفعل من دون قيود وشروط أفعالاً مسؤولة لا يمكن بحال التملص من النتائج الناجمة عنها.
3 - الحرية: فالهوية قائمة على الحرية، إذ هي شعور بالذات والتماس وجودها الأصيل غير المشروط بقيد سوى اكتشاف الأنا المفكرة الحرة.
والهوية موضوع إنساني، فالأفراد والجماعات يمكن حدهم وتقسيمهم على أساس هووي فالكوجيتو الديكارتي، فالأنا المفكرة في (أنا افكر إذن أنا موجود) موضوعه الفكر والأنا وليس غير ذلك، كما أنه مفهوم خاص بالنفس، فهو بحث سيكولوجي بامتياز، إذ يغطي الجانب المعنوي من الشخصية الإنسانية ومعنى ذلك أنه ليس موضوعاً مادياً ببعده البدني.
في العصر الحديث ظهر مفهوم الهوية مع المفكر الانكليزي جون لوك وكان يقصد بها “الهوية الشخصية”، وليس مصطلح الشخصية شرطًا مقيّدا لها في حدود الأفراد فقد تكون للجماعة هوية شخصية جامعة، وهنا تأخذ دلالة التشابه في الصفات بين مجموعة أفراد، فعلى ذلك أن مفهوم الهوية تجانس، أي توزع الصفات المشتركة بين أفراد جماعة بالتساوي، حتى يتحقق المفهوم ويكتسب معناه الدلالي.
ويرتبط مفهوم “الهوية” على قدر كبير بالشواخص الرمزية، مثل الشواهد التاريخية نظير الأرض والمساجد والكنائس وأماكن الوقائع، فاذا ما تعرضت هذه الشواخص للتهميش انسحب ذلك للهوية، وبالتالي تتعرض للمحق والتشظي هي الأخرى، فالهوية الاسلامية مثلاً ترتبط بالحرم المكي ومدينة رسول الله والقدس الشريف واللغة ووحدة اللسان والنسب، فاذا تعرضت هذه الشواهد إلى الغزو والتعدي انسحب ضرر ذلك لكيان الأمة برمته، ولذا فإن حق الدفاع عن الهوية نزوع مرتبط بالجانب النفسي قبل المادي.
ثم أنه قد تطرح مجموعة تساؤلات مرتبطة منها، أولاً هل لتعزيز الهوية تأثير سلبي على علاقة الذوات مع بعضهم؟ وهل تعزيزها يكون حائلاً أمام إشاعة وتعزيز المجال العام؟ وبالتالي تقف جداراً آخر أمام تمدد وتوطن الأفكار العقلانية “الفلسفية” في الواقع .
تساؤلات مشروعة ناشئة من الخشية التي نمت من خلال مطالعة الصراع بين الهويات طوال التاريخ، ولكن أمراً من تلك لن يكون حائلاً أو يشكل صعوبة في الواقع، إذ الشعور بالهوية أمر طبيعي في الإنسان، فالإشارة إلى الذات فعل محقق، ويمكن اعتبار مجموعة هويات تشكل معالم، أي فرد فهو في الوقت الذي يكون فيه من بلد له هويته وثقافته، قد يكون معتنقاً دين بلد ونما في بلد آخر، وبذلك يلتصق ذلك الفرد بهويتين، ويمكن أن يتأدب بثقافة فكرية وعملية تختلف جذرياً عن ثقافته، فيعتمد الوافد ويشيح بنظره وسلوكه عن ثقافة الجغرافيا التي هو فيها، ولكن الأساس الذي ينبغي تعزيزه هو أن تعدد الهويات لا يفسد العلاقة مع الأفراد، لأن كل فرد عليه أن يعي أن من مصلحة الإنسان، بل وجمالية الحياة هو تلونها بألوان مختلفة من الهويات، فاللون الواحد مألوف ورتيب وممل، وأن الاختلاف “الهووي” لا يقتضي الصراع الأيديولوجي، ولا يستجلب الشر.
لعل مسألة تعزيز الهويات المتعددة يكون فيه اثراء معرفي للواقع، فمطارحة الأفكار والمقارنة بينها يزيد من حظوظ الإنسان معرفياً وذهنياً، وهذه حالة ايجابية أخرى لتعزيز الهوية، وإن السمة الاساسية التي على أثرها يتشكل المجال العام، هو الاختلاف فلولاه لما احتيج إلى النقاش والحوار والنظر في مقولات الآخر وتطلعاته وهمومه والاهتمام بها، ومحاولة تثبيتها كأسس يفترض إيلاؤها
الاهتمام.
وإن الدرس الفلسفي يقوم على ثقافة الاختلاف ويحاول من خلال المختلف تعزيز الانسجام وايجاد حالة للتوازن، بين الأفراد وبين الجماعات والهويات، فالمختلف أداة لنشر المعرفة وجمالية المكان والحاضرة.