الفضاء السيري بين التذويت والتذكير
عبد علي حسن
يعد فن السيرة واحداً من الفنون السردية التي اهتمَّ بها علم السرد المعاصر، وتحديداً منذ منتصف القرن الماضي، فضلا عن السرديات الأخرى المجاورة كالمذكرات واليوميات وأدب الرسائل وسواها من السرديات المعبرة عن نشاط الإنسان السردي انطلاقاً من المفهوم الجديد للسرد باعتباره إخباراً، وبالإمكان تسميتها بكتابة الذات أو الغير، إذ يقسم فن السيرة إلى ذاتية وغيرية.
وما يعنينا في هذا المقام هو السيرة الذاتية التي يتحقق فيها مبدأ المطابقة بين الكاتب والراوي والشخصية، فالكاتب هو ذاته الذي يتولّى السرد، وهو ذاته الشخصية المهيمنة والرئيسية، فهي تعيد إنتاج ما استقرَّ في الذاكرة الفرديّة والبعيدة منها على وجه التخصيص، لأنّها تشير إلى وقائع وحوادث لا يمكن نسيانها.
وبهذا المعنى فإنَّ السيرة الذاتية تُعدّ من سرديات الذاكرة التي يُعيد كاتبها إنتاج ذاكرته المتضمنة أحداثاً مرّ بها الكاتب وشكّلت سيرة لحياته منذ الطفولة، ولعل اعترافات جان جاك روسو، قد ظهرت في سياق شيوع قيمة الفرد في المجتمع الحديث كان سبباً في تقبل أولى الكتابات السيرة، وكان سبباً في توجه الشخصيات الأدبية والاجتماعية والسياسية فيما بعد. إلى كتابة سيرة حياتهم والتوقف عند المحطات المهمة التي أسهمت في تكوين شخصياتهم المتميزة التي استأثرت باهتمام الناس، وقد تواضعت المواقف والرؤى على تقديم تعريف للسيرة الذاتية بكونها: (نوع من أنواع الفنون النثريَّة، تجمع بين القصة والتاريخ، يُراد بها سرد سيرة حياة إنسان ورسم صورة دقيقة لشخصه ومنجزاته وكشف جوانب العظمة والإبداع لديه)، وهي بذلك تستعيد الماضي وتسرد ذاكرته المتعلقة بالمحطات الحياتيّة التي أسهمت في تكوين شخصيته المتميزة في الحقل المعرفي الخاص به، فيدوّن فيها الكاتب أحداث حياته المهمة والبارزة التي أدت إلى بناء شخصيته وتجاربه المهمة بأسلوب أدبي ذي لغة جيدة وأمانة كبيرة.
وفي هذا المقام يتبدّى ارتفاع منسوب السرد الذاتي الخاص بالكاتب وحياته، على الضد من (المذكرات) التي تعنى هي بعض الذكريات التي تركز على المشاعر الشخصية، ويكتبها الشخص واصفاً أحداثاً معينة تعرض لها في أوقات معينة لاعتقاده بأهميتها، وعادة ما تكون غير خاضعة لتسلسل زمني لتلك الأحداث، كما أنّها تصف فترة أو مرحلة معينة من حياة الشخص على الضد من السيرة الذاتية التي تصف حياة الشخص بشكل كامل من دون التوقف عند أحد التفاصيل. ويتبدّى لنا ارتفاع منسوب الكتابة عن الذات في السيرة الذاتية أكثر منه في المذكرات التي يرتفع فيها منسوب الوقائع والأحداث والشخصيات أكثر من الحديث والكتابة عن الذات.
ويحفظ لنا التأريخ بأهم السيرذاتية العالمية والعربية، لعل أهمها سيرة القديس اوغسطين التي تضمنت الكشف عن شخصيته الدينية وتجربته الصوفيّة التي دوّنها في القرن الرابع الميلادي واعترافات جان جاك روسو في القرن الثامن عشر/ 1782 التي تضمنت تجربته مع الكنيسة التي فضحت الممارسات اللا أخلاقية التي انتظمت الحياة الكهنوتية في الكنيسة. أما على المستوى العربي فقد كانت (الأيام) 1920 بأجزائه الثلاثة لطه حسين هي النص المؤسس لكتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي التي تأثر بها عدد من الكتاب العرب، فكتبوا سيرهم الذاتية على وفق أسلوبها. مثل سيرة سلامة موسى وأحمد أمين، ومن التجارب السيرية المعاصرة المهمة هي (الخبز الحافي) للكاتب المغربي محمد شكري التي كتبها عام 1972 وترجمت إلى تسع وثلاثين لغة أجنبية، ولم تنشر بالعربية حتى عام 1982، وقد أحدثت ضجة اجتماعية وأدبية بفعل صدقها وجرأتها في الكشف عن جوانب مهمة في حياة الكاتب على المستويين الاجتماعي والإبداعي، ثم صدرت بعد ذلك كتب للسيرة الذاتية العربية موزعة بين أكثر من بلد عربي تبدأ بطه حسين ولم تنته بعد، مما يعني رواج هذا النوع السردي والاهتمام به في الثقافة العربية المعاصرة حتى باتت تزاحم السرديات المجاورة لها كالرواية، إذ أصدر العديد من الروائيين العرب روايات السيرة التي لا تتطلب من الكاتب مبدأ المطابقة وحقيقية ما جرى.
ونرى أن هؤلاء الكتاب الذين كتبوا سيرتهم الذاتية كرواية سيرة قد تجنبوا الحرج الذي قد يوقعهم مع شخصيات أو نظام سياسي معين مطلقين العنان للتخييل كآليَّة لكتابة الرواية، وقد اخترنا كنموذج لمعايتنا النقدية لهذا الفن كتاب (حياتي 100% + واحد) للقاص والروائي العراقي عائد خصباك، والذي حمل توصيفه الإجناسي مفردة (سيرة) كما مثبّت في الغلاف الذي تضمن تمهيداً ومئة وواحد وحدة سردية. ففي التمهيد يقدم خصباك فهماً للسيرة وفق ما قام به من متابعة وسرد لمسيرة حياته التي شاء أن يضعها في وحدات سردية مستقلة بعضها عن بعض عبر العنوانات التي اختصت بها الوحدات السردية التي تشير إلى مكان وقوع الأحداث أو أسماء لشخصيات تعالقت مع الكاتب إلّا أنها تشترك في كونها الفضاء الزمني والمكاني الذي تعالق فيه الكاتب مع الوقائع والأحداث والشخصيات التي قابلها والتقى بها في حياته. ومنذ البدء يصر الكاتب ويراهن على الطبيعة السرديَّة التي ستنتظم مذكراته، كما ويؤكد على شذريّة الوقائع والأحداث أي عدم ارتباطها بالتأريخ لشموليتها وإمكانية وقوعها في أي زمن على الرغم من كونها وقائع حدثت في زمن مضى وانتهى. ويشير الى مفهومه عن كتابه بالقول (ليست هذه مجرد سيرة لكاتب، فيها ما لم يُعرف عن خبايا حياته من قبل، وأقصد أن فيها من الأحداث، التي قد يكره البعض أن يفصح عنها، هي غير ذلك، السيرة هنا.. تتحدث عن تجربة حياتية واسعة، يتقاطع فيها ما هو سياسي أحياناً مع الاجتماعي والإنساني أيضاً.. النص ص6). ولعل هذا النص وما ورد أعلاه من مفهوم للسيرة حسب رأي الكاتب يلقي الضوء علىُ بنائيَّة وأسلوب طرحه لتجربته الحياتيَّة الذي سيبتعد عن المعايير الإجناسيّة لفن السيرة بقدر اقترابه من بنائية المذكرات التي لا تخضع إلى تسلسل زمني يخص حياة الكاتب، وانما انتقاء لأحداث واسماء شكلت تفاصيل لأجزاء من حياة الكاتب الذي لم يشأ الوصول إلى الكشف عن المسكوت عنه في تجربته، فهو على الرغم من كشفه عن كيفية تكوّن الذائقة القرائية لديه والسردية منها تحديدا منذ الطفولة، إلّا أن الوحدات السردية المتتالية لم تكشف عن كيفية نشوء، وتكون موهبته في الكتابة السردية كونه قاصّاً وروائياً وظروف تشكّل الخطاب التجريبي لقصاصي الجيل الستيني الذي يّعدّ خصباك واحدا من الذين وضعوا السرد العراقي الحديث على جادة التجريب والحداثة. ففي الوحدات السردية التي يشير فيها الى أمكنة ارتياد وتجمع الروائيين والقصاصين الستينين كمقهى البرلمان والمقهى البرازيلية، فقد توقف الوصف لهذه الأمكنة عند الحدود الظاهراتية بعدّها أمكنة تجمع الكاتب مع عدد من الشخصيات التي تشترك معه بذات الاهتمام الثقافي منه على وجه التحديد.
والإشارة إلى ما كان يفعله فلان أو فلان، وإذا ما أبعدنا عن الكتاب اشتغاله في منطقة فن السيرة فإنّ مجريات ومعطيات السرد التي أحاطت بالوحدات السردية، ووفق ما ذهب إليه الكاتب في تمهيده للكتاب تشير الى التوجه المذكراتي الذي انتظم جميع الوحدات السردية التي كشفت عن الوقائع والأحداث والشخصيات التي كوّنت الذاكرة البعيدة للكاتب، فقد تمت استعادة الماضي الخاص بتعالق شخصية الكاتب مع الشخصيات التي شغلت حيّزاً كبيراً في تلك المذكرات، سواء منها المتعلقة بالشخصيات الثقافية أو الشخصيات العامة التي لها من المواقف ما يستدعي الإشارة لهم كشخصية هادي جابك الذي خصّه الكاتب في وحدة (سدارة الزعيم)، وكذلك شخصيتا هاشم أبو الدهبن وسعدي الحلي، إذ إن وجود هذه الشخصيات قد تجاوزت الذاكرة الخاصة بالكاتب إلى الذاكرة الجمعية لمدينة الحلة، وكذا الأمر بالنسبة إلى إشارته لشخصية الشاعر عبد الأمير الحصيري في أكثر من وحدة سردية، كما أن هناك وحدات سردية اختصت بحوادث تعرض لها أشخاص أراد منها الكاتب تسليط الضوء على وحشية الأنظمة الديكتاتوريَّة السابقة، كما في الوحدة السردية الخاصة بالشيخ يوسف كركوش والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد اللذان تعرّضا إلى استبداد وتحقير النظام البعثي والحرس القومي في عام 1963، كما حرص الكاتب على الكشف عن فواعل الاضطهاد والقهر الذي كان يمارسه النظام المباد الذي حكم البلاد بسياسة الجبر والإكراه طيلة العقود الأربعة التي سبقت التحول البنيوي للمجتمع العراقي في عام 2003، وخاصة ما تعرض له الكتاب والأدباء العراقيون من قبل سلطة البعث الثقافيّة والسياسيّة والأمنيّة والتي دفعت بالكثير منهم إلى مغادرة البلاد خوفاً من بطش السلطة، إلّا أن أغلب الأحداث والوقائع التي شكّلت فضاءً تذكيريّاً للشخصيات الثقافية والأدبية والحياتية قد حرص فيها الكاتب على أن تكشف عن حوادث تأخذ طابع التعالق اليومي وفق مكانة الكاتب الثقافية وصلته الوظيفيّة بالأدباء والكتاب أمثال الناقد عبد الجبار عباس والشاعر موفق محمد والقاص عبد الستار ناصر والقاص حامد الهيتي والدكتور علي جواد الطاهر والشاعر رشدي العامل والقاص عبد الملك نوري والشاعر سعدي يوسف والروائي نجيب محفوظ والقاص غالب هلسا وسامي خشبة وادور الخرّاط وسميرة عزام وغيرهم من الأدباء والكتاب العرب والعراقيين الذين كشفت المذكرات عن سعة العلاقة الثقافية والاجتماعية التي ربطت الكاتب بهذه الشخصيات واحتفاظه بذكريات ومواقف تكاد تكون يوميّة لم تتجاوز اللقاء والجلسات التي تشير إلى الحياة الداخلية للوسط الثقافي من دون الدخول إلى منطقة الهمّ الأدبي المتعلق بكينونة المنجز.
لقد وضع خصباك هدفه من كتابة مذكراته هذه التي أشار إلى أن (الأحداث والوقائع في هذه السيرة شكّلتا روح السرد، ومن دونهما ينقص الحياة الكثير.. النص ص5) لذا فإنّ للمتخيّل نصيباً وافراً في تسريد مذكراته، إذ أدرك أن السرد الواقعي للأحداث الواقعيَّة والحقيقيَّة هو مجرد توثيق يراد منه تأكيد حقيقيَّة ما حدث وهو ما دلّت عليه مفردة (واحد) المسبوقة بعلامة (+) لتأكيد صدق الأحداث والوقائع التي تضمنتها المذكرات، وتبعاً لما يتمتع به الكاتب من دراية في فن السرد على المستوى الروائي وكتابة القصة فإنه اتجه صوب صوغ تلك الوقائع بسرد لا ينفي فيه المتخيل صدق الأحداث، فكان هنالك حضور للوصف البلاغي والصورة السردية المكتنزة بالدلالات، فضلاً عن جمالية اللغة السرديّة الكاشفة لقدرة الكاتب على إدارة السرد بأسلوب أدبي تستوجبه طبيعة المسرود وفق تقنيات استهدفت بناء الفضاء التذكيري المكون من الأمكنة والوقائع والشخصيات، ففي الوحدات السردية الاولى تمكن الكاتب من ابتكار الطفولة التي اهتمت بقراءة القصص وكيفية سردها للتلاميذ الذين آثارهم اهتمامه في قصّ ما قرأه، وكذلك تجربة الحب الأولى، كما أستأثرت الأمكنة التي كانت ميداناً للقاء الكاتب بالشخصيات سواء في بغداد أو الحلة أو القاهرة أو سواها، فقد كانت مقهى البرلمان والمقهى البرازيلية والجندول أمكنة اثيرة شاء الكاتب أن يمنحها مكانة استثنائية عبر احتوائها للقاء الكاتب بالشخصيات التي اهتم باستدعائها من ذاكرته التي امتدت عبر عقود، فقد كان الخطاب السردي حاضراً ومقترباً من بنائية السرد القصصي الذي يستحضر الحدث والشخصية والمكان إلى مستوى النص القصصي الكامل ومحتفظاً باستقلالية الوحدات السردية التي كوّنت بمجموعها الخطاب المذكراتي الذي اصطفى اهمّ الوقائع والشخصيات المشكّلة للذاكرة البعيدة للكاتب التي اعتقد بأهمية تدوينها كأحداث حقيقية وصادقة تستوجب التذكير.