شاكر الغزي
ميدان عمل الفيزياء هو الأجسام، والاشتقاق وتطبيق قوانين الفيزياء بشكل مثالي، كان لا بد من التعرّف على المواد الأولية التي تتكون منها الأجسام، والتي تسمى بالجسيمات الأولية، وبمعرفة القوانين، التي تحكم طبيعة وحركة تلك الجسيمات يمكن للفيزياء أن تعرف أو تفسر كل شي في الكون.
ولكن ما هي تلك الجسيمات الأولية التي تتألف منها الأجسام؟
في النموذج الذرّيّ، تعتبر الذرّات هي أصغر الجسيمات الأولية المعروفة، وتمَّ تشخيص أربع قوى تتحكم في طبيعة وحركة تلك الجسيمات الأولية، وهذه القوى هي: القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية الشديدة، وقوة الجاذبية.
كانت وما زالت هذه القوى الأربع تُسمى بالقوة الأساسية في الكون، وبحسب بعض الفيزيائيين فلا توجد قوة خامسة في الكون، ولكن مؤخراً اقترح فيزيائيون آخرون وجود قوة خامسة وسادسة وسابعة. المهم أنّ هذه القوى الأربع ظلّت شغّالة حتى بعد تحليل الذرة إلى إلكترونات وبروتونات ونترونات، ولكن هل فعلاً أنّ الذرة بمحتوياتها هي أصغر الجسيمات الأولية؟
بالطبع لا، لأنّ الجسيمات الأولية يفترض أنها لا تحتوي بنية داخلية أو عناصر أصغر، والذرات تحتوي على بروتونات ونترونات، ولذا افترض الفيزيائيون (وتم رصد ذلك فيما بعد) وجود جسيمات أصغر سُمّيت بالهاردونات، ولاحقاً افترض وجود جسيمات أصغر سُمّيت بالكواركات.
ومن الطريف أن نذكر هنا، أنّ العالمين موري جيلمان وجورج سويج اللذين قدّما نموذج الكوارك عام 1964، لم يتّفقا على تسمية مناسبة لهذه الجسيمات الصغيرة، وفي أحد الأيام كان جيلمان جالساً قرب البحيرة فسمع صوت صياح البطّ، واستعرق دقائق ليفسّر صوت البطّ بكلمة (كوارك)، ثمّ استغرق وقتاً أطول فيما بعد لصياغة تهجئة صحيحة لهذه الكلمة (المصطلح)، حتى وجدها مصادفةً في رواية يقظة فينّيغان (Finnegan's Wake) للكاتب الإيرلندي جيمس جويس التي نشرت عام 1939، قبل عامين من وفاة جويس الذي استغرق 17 عاماً في كتابتها!.
وهذه الرواية من الروايات الصعبة ليس في كتابتها فقط، بل وفي فهمها!، وقد استخدم فيها جويس عدّة كلمات مخترعة بلا معنى، ومنها كلمة
كوارك التي ترد مكتوبة هكذا (Quark). وللكواركات خصائص كمّية غريبة تُسمّى النكهات (Flavours).
في البدء، كان عدد الكواركات المكتشفة قليلاً، ثم تبيّن أنها مثل مجموعة من آلاف الحيوانات تنتشر في مزرعة كبيرة أو (حقل)، ومن هنا فشل النموذج الذريّ في توصيف طبيعة الأجسام، واستعيض عنه بمفهوم الحقل الفيزيائي أو الحقل الكمومي، فنبغت فيزياء الكمّ لوضع قوانين تشرح علاقات تلك الكواركات ببعض وتفسر طبيعتها، والتي اتضح أنها تتصرف على شكل شِدّات كمية ضمن حقول فيزيائية، لا كجسيمات مستقلة ومنعزلة.
ولذا فقد بقيت القوى الثلاث الأولى شغّالة في حقول فيزياء الكمّ، وخرجت قوة الجاذبية، وصار إطار عملها ينحصر في الأجسام والأجسام الكبيرة جداً (أي النسبية العامة).
حاول آينشتاين طيلة آخر 30 عاماً من عمره أن يجمع القوى الأربع من جديد في صيغة معادلة واحدة أو عدة صيغ تنتمي لنظرية موحّدة تُسمى بـ (نظرية كل شيء)، أي تجمع بين النسبية العامة وفيزياء الكم، ولكنه فشل.
على صعيد آخر، توصّل فيزيائيون آخرون إلى أنّ الجسيمات الأولية ليست هي الكواركات، وإنما أوتار فائقة الصغر والدقة، وبالأحرى أن الجسيمات الأولية ليست الأوتار بذاتها وإنما هي اهتزازاتها!.
سميت هذه النظرية بنظرية الأوتار الفائقة، والتي افترضت أن الكون كله عبارة عن نسيج معقّد جداً ودقيق جداً، من شبكة لا متناهية من الأوتار الفائقة ضمن 10 أبعاد، وليست 3 فقط! وإنّ الأجسام إنما تتكون نتيجة لطريقة اهتزاز تلك الأوتار!.
لم تتخذ نظرية الأوتار الفائقة صيغة واحدة، بل خمس صيغ، كلّها لم تتمكن من جمع القوى الثلاث مع قوة الجاذبية، ولذلك ظلت نظرية كلّ شيء حلماً وهاجساً صعب المنال.
النظرية أم (M-theory) اقترحت صيغة لدمج الصيغ الخمس لنظرية الأوتار الفائقة بإضافة بعد حادي عشر، وقد طرحت من قبل أستاذ الفيزياء الأمريكيّ إدوارد ويتن في عام 1955. والغريب أنّه من خلال إضافة البعد الحادي عشر تمّ تفسير قوة الجاذبية بشكل مقبول إلى حدّ ما ولكنه غامض، إذ افترض أنّ الأوتار الفائقة في إطار حركتها قد تشكلّ غشاء مرناً لا متناه، وأنّ الكون الذي نحن فيه يقع على حافة هذا الغشاء، وقوة الجاذبية تصلنا من كون آخر يقع على الحافة الأخرى من الغشاء، وهذا يفسر وصولها ضعيفةً هكذا.
يُعتقد أنّ حرف (M) يرمز إلى كلمة (Mother) بمعنى أنها النظرية الأمّ لكل النظريات، أو كلمة (Membrane) وتغنى غشاء، ولكنّ الحقيقة هي أنه لا يوجد معنى حقيقي له، حتى إدوارد ويتن (مقترح هذا الاسم) لم يعلم تماماً ما هو معناه، فقال مازحاً في إحدى المرات: إن حرف أم يدل على الغموض والتشويق من كلمة (Mystery).
في حين يعتقد آخرون أنّ حرف (M) يرمز إلى السحر من كلمة (Magic)، أو الجنون من كلمة (Madness).
ويفضّل العالم الفيزيائيّ الشهير بول ديڤيز معنى الغموض ويرى أنّه الخيار المناسب؛ لأنَّ البنية الرياضية للنظرية M تظلّ محيّرة وغير مكتشفة بالكامل. كما يرى أنّ هذه النظرية توصف بالمعجزة (Miracle)، وهو سبب آخر لتسميتها بالحرف، ويضيف أنّ هذه الشذرات اللغوية التي تبدأ بحرف (M) تقدّم لنا لمحات مغرية عن هذه النظرية، ذات القوة والأناقة الاستثنائية التي لم تخضع للاستكشاف الكامل بعد، والتي قد تكون مفتاح فهمنا لهذا الكون.