الصَّغير أيايا

ثقافة 2024/01/16
...

  أولوسولا مارتن ايد-اونجوبي-بينيت
 ترجمة: هناء خليف غني

العالم مكانٌ رائعٌ، والبشر فيه مخلوقات أروع وأجمل. وكُنت أظنُّ بأنَّي قد شاهدت كل شيء. لكني سرعان ما أدركت خطأي.
في أحد الأيام، قابلت شخصًا أنا على يقين بأنَّي لن أنساه أبدًا لأنَّه كان ميتًا في المرة التّالية التي رأيته فيها. من لحظة ولادته حتَّى وفاته، لم يقدم هذا الشَّخص فائدة تذكر لِمن حوله، ربما لأنَّه لم يكن حيًّا في الأصل!. ومع أنَّه لن يعلم بهذه القصَّة، ولم يكن له أن يحلم بإمكانية كتابتها، إلَّا أنَّها ستضمن تخليد ذكراه!. لم يدم أوّل لقاء لي به سوى دقائق معدودة، غير أنَّي لن أنسى أبدًا ما تركه في نفسي من أثر. والآن، وبعد مرور عقدين من الزمن، أشعر بضرورة مشاركتكم قصته المقتضبة. إذ إنَّه، على الأقل، سيواصل العيش في هذه الصَّفحات القليلة، وأنا أعلم الآن أنَّ رحلته القصيرة المثيرة للشفقة في هذه الحياة لم تذهب سدى! هذه هي قصَّة البؤس المُذل والانكسار الوضيع. والعجب أشد العجب أنَّها قد تمخضت، فعلًا، عن شيء ما.
كان أيايا هيكلًا عظميًا سائرًا على الأرض. هذا بالضبط ما كان عليه. وإذا كُنت قد فهمت من هذا الوصف أنَّ هذا هو لقب اللابطل في هذه القصَّة، فإنَّك غير مُجانب الصَّواب لأنَّ القليل من النَّاس، في الواقع، يعرفون اسمه الحقيقيّ. وعلى أيّة حال، لا يعني هذا أنَّ اسمه مهمٌ. فكثيرٌ من النَّاس لم يكترثوا لهذا الأمر في الأصل، إذ كان أيايا صورة هزليَّة شائهة للفقر المدقع الفِصاميّ؛ وهو المثال الأكمل للوجود اليائس والكئيب!
الأرجح أنَّه كان في أوائل الثَّلاثينيات من عمره، لكنَّ سحنته الشَّاحبة المليئة بالبثور تُصوّر رجلًا في أواخر الخمسينيات ولاسيما إذا تنبهت للتَجاعيد المبكرة التي غزت وجهه. بل إنَّ هيأته تبدو أسوأ من ذلك لو نظرنا إلى النَّدبة العميقة بطول ثمانية سنتمترات تقريبًا أعلى عينه اليسرى، وسِنيه المخلوعتين من الرُّبع الأيمن الأعلى من فمه. قال البعض إنَّ لذلك علاقة بهجومٍ بقنينةٍ مكسورة قبل بضع سنوات. وليس هناك في التَّحول اللَّونيّ الَّذي زحف على فمه ما يدعو إلى وصفه أو الكتابة عنه!
لكنَّ هناك شيئا واحدا جعله يبز أقرانه ويتفاخر عليهم، وإنْ كان هذا الفخر من النَّوع السَّيء الكامن في طبيعة وجوده الغريبة نفسيًّا. كان أحد أجزاء دماغ أيايا يعمل بطريقة غير مألوفة نسبيًّا؛ أما الجزء الآخر، فمع أنَّه دأب في استخدامه وقتًا طويلًا، إلا أنَّه لم يعمل قط بطريقةٍ واعيةٍ. كان الجزءان خاضعين للتأثير المؤلم والمُهلك لخمر النَّخيل المُقطر المعروف محليًّا ،بأوغوغورو، (خليطٌ قوي ومُدمر من الكحول يعجز شراب الفودكا عن مجاراته)، مُضافًا إلى الانفصال الكليّ والهذيانيّ عن الواقع الناجم عن التّأثيرات المُهلكة لتدخين ماريجوانا خالصة بكميات كبيرةٍ لمدةٍ طويلةٍ من الوقت.
يبدو الأمر كما لو أنَّ هناك معركةً متواصلةً تدور رحاها في داخل جمجمة أيايا الصَّغيرة، وأنَّه لم يعرف قط من يكون! والواقع أنَّه، في أغلب الأحيان، لم يكن واعيًا لمكان وجوده. كان يفعل ما يشاء حينما يشاء. ولسوء الحظ، لم يكن يعي قط  متى فعل هذا الأمر أو ذاك لأنَّه كان من المستحيل أن يميز الحدود بين الواقع والخيال. ولا غرابة والحال هذه ولا عتب على النَّاس في استنتاجهم أنَّ أيايا لم يكن طبيعيًا، لم يكن طبيعيًا‘ بالمعنى المألوف للكلمة، على الأقل. وهم، في استنتاجهم هذا، لم يكونوا مُخطئين تمامًا.
عاش الصَّغير أيايا مع أبويه في كوخٍ مشيدٍ من الآجُرّ، وقطع الورق المقوى المُهملة، وقضبان الحديد المعوجة والصَّدئة؛ كوخ في منطقةٍ شعبية فقيرة شديدة البؤس في العاصمة لاغوس معروفة باسم «الأرض الحرام!» يُمكنك هنا أنْ تجد حثالة المجتمع الحضريَ: أحقر العاهرات وأوضعهنَّ، والقوادون، ومدمنو المخدرات، وقاطعو الطُّرق والبلطجيَّة، والنَّصابون، وتجار المخدرات، والسُّراق، والنَّشالون، واللصوص المسلحون، وكل ما يخطر على بالك من السَّفلة والأوغاد. المنطقة كلها أكواخ من الآجُر والصَّفيح مترامية الأطراف، مُشيدة في تربة طينيَّة هشة تتحول سريعًا إلى  مستنقعات موحِلة كلما هطلت الأمطار.
في “الأرض الحرام”، تمتد مزاريب مياه قذرة وكريهة الرَّائحة بين أكثرية هذه الأكواخ المؤقتة والمُتراخية الأُسس، وأيضًا خلفها، وأمامها، وحتى خلالها؛ أكواخ تحول أكثريتها إلى بؤر محروسة بعناية لإدارة الأعمال المشبوهة كبيوت البغاء، والحانات غير المرخّصة حيث أنواع الشَّراب، والمخدرات، والعاهرات الملائمات لكل ذوق. كان شائعًا في هذه الأماكن رؤية رجال من شتى الأحجام والأشكال يصطفون في طوابير أمام بعض الأبواب المُريبة في انتظار دورهم في إشباع حاجاتهم الجسديَّة! وفي المساء، يعم الصَّخب والضَّجيج المكان مع إطلاق كل واحدةٍ من هذه البؤر لنسختها من الموسيقى وتجاهلها لتنافر الأصوات والألحان التي غرقت فيها البلاد والعباد.  
 والمعروف أنَّ لأيايا أربع شقيقات جانحات خبيرات- بمعنى الكلمة- بالعيش في الشَّوارع، ومتعودات سلفًا على أنواع النِّكات السَّاخرة والتَّلميحات المُبطنة الَّتي يُلقيها أهل “الأرض الحرام” على مسامعهنَّ. وقد تعلمت الشقيقتان الكبيرتان كل الأحابيل والخدع في عملهنّ، وبلغتا مستوى في ذلك تفوقتا فيه على نظيراتهنَّ الأكبر سنًا في هارلم أو برونكس البعيدتين، وكانتا قد حملتا يومًا لقب ’الكلب العمومي، لِما تميَّزنَّ به من ذكاء في استغلال الشَّهوة الجنسيَّة الأنانيَّة لدى الذُّكور- وهو إنجاز لا بأس به في ظني!
كان للشقيقات عقليَّات تجاريَّة لامعة، وكانت مآثرهنَّ الجنسيَّة من الرَّوافد المهمة السَّاندة لموارد الأُسرة الهزيلة. وتعدى الأمر ذلك إلى تردد الأقاويل حول إقدامهنَّ على إشباع الحاجات الجنسيَّة لوالدهن لاعتلال صحة الوالدة، واستسلامها الحرفيَّ للعلل الجسديَّة الَّتي تراكمت بعد سنوات من العمل في الدَّعارة بدوامٍ جزئي مُضافًا إلى تعاطي المخدرات، والإدمان وسوء التَّغذية، والهزال والسَّقم!. كان الوضع المؤسف  والمأزق الَّذي وقعت فيه الوالدة يعني أنَّ على صغيراتها أن يتدبرنَّ أمرهنَّ ويدافعن عن أنفسهن في سنٍ مبكرةٍ، في بلد كان فيه البقاء للأقوى هو الحقيقة الصَّارخة والمؤلمة، والمقولة المأثورة ،على المرء أن يتدبر أمره، هي الحاجة المُلحة والقاتمة.
لا ينام الصَّغير أيايا في المنزل إلَّا نادرًا. لكنَّ شقيقاته يعلمنَّ علم اليقين أماكن وجوده، ويستمتعنَّ كثيرًا بالتَّسلل خلسةً وراءه، وضربه بعصا أو حزامٍ، ثُمَّ إطلاق أرجلهن للريح! ولا حاجة بنا للقول إنَّ في ذلك مجلبةً للكثير من التَّسلية والهزل للمشاهدين للعابرين، وأيضًا للشقيقات انطلاقًا من ضحكاتهن العابثة في هذه الحوادث المُنتظمة الَّتي لم تكن تُزعجهن قط لمعرفتهن بعجز شقيقهنَّ عن تكريس الوقت الكافي للعناية بما يحدث له أو حتّى ما يحدث حوله!
لم يكن بوسع أيايا قط المشي بخطٍ مستقيمٍ؛ مشيته كانت فعل توازن في موقع وسط بين التَّرنح المتمايل وجرّ القدمين على غير هدى. وكيفية تمكنه من البقاء واقفًا كانت معجزةً، فهو يتمايل ويتلوى ويتحرك حركة وئيدةً في كل مرةٍ يقف فيها ساكنًا، وعيناه المُجهدتان المحتقنتان بالدَّم تجتهدان في النَّظر في الفراغ؛ وهيأته العجفاء الهزيلة توشك على التَّداعي مع أخف هبة رياح. وبهيأته هذه، كان دائمًا ما يلفت نظر حشد صغير من المتفرجين الذين يفغر بعضهم أفواههم عجبًا من سوء حالته. أمّا أسلوبه في ارتداء الملابس فكان يُمكن أن يُكسبه الجائزة الأولى في أيَّة مسابقة للملابس التَّنكريَّة في الاحتفالات. إنَّه لا يشبه الآخرين. فغطاء رأسه المفضل هو بيريه متهرئة، وقذرة، وبالية كان يرتديها بطريقةٍ تحجب أذنيه؛ وكان يرتدي أيضًا قميصًا ذا لون أزرق غامق بلا أكمام، كان مفخرة لصاحبه الأصلي قبل سنوات خلت، فهو جزء من الزّي الرَّسميّ لرِجال الشَّرطة. هذا ما يخص الجزء العلويّ من جسمه، أمَّا الجزء السُّفليّ فمكسو بسروال خاكي اللَّون قذرٍ ومتجعد ومتهرئ، أكبر من مقاسه بمرتين أو ثلاثة، يمتد إلى ركبتيه النحيفتين، ومثبت بربطة عنق قديمة حلَّت محل الحزام للحيلولة دون سقوطه إلى الأسفل. وفي قدميه، كان أيايا ينتعل زوجًا قديمًا ومتهالكًا من أحذية الجيش لا أربطة فيها، ويطلُ من ثُّقوبها عددٌ من أصابع قدميه العجفاء والمهزولة.
وكان أيايا، متى ما ألح عليه هاجس ما، ينزلُ إلى شوارع العاصمة، ويعمل في توجيه حركة المرور توجيهًا عشوائيًا، ويتسبب في فوضى عامة! ودائمًا ما كان يُبادر إلى تحية رجال الشُّرطة او العسكر الَّذين يلتقيهم توافقًا لأنَّه، في ذهنه الفصامي الصَّغير، كان أحيانًا يتصرف كما لو أنَّه جنرالٌ في الجيش. ولولا حقيقة إدراك الاخرين أنَّه مسلٍ فيما يفعله، ومضطرب عقليًا وغير مؤذٍ نسبيًا، لما ترددوا في إتخاذ إجراء أشد قسوةً من النّظرات المُستغربة واللامبالية الَّتي يُسددونها إليه.  
كان أيايا معروفًا إلى حدٍ ما، ولم يكن غريبًا مشاهدة جمعٍ من الصِّبية يطاردونه في الشَّارع وهم يرددون بصوتٍ عالٍ: “الصَّغير أيايا! الصَّغير أيايا!” كانوا دائمًا ما يسخرون منه بقسوةٍ، لكنَّه، من جانبه، كان يُسليهم أحيانًا بمطاردتهم لمسافةٍ قصيرةٍ يتشتتون على أثرها في مسارات كثيرةٍ متشعبةٍ، وبعضهم يضيع ويتوارى في الشَّوارع المزدحمة؛ ولأنَّه لم يُطارد قط طفلًا بعينه، كان من البديهي ألَّا يُمسك بأي واحدٍ منهم، ولا يُمكن للمرء سوى أن يُخمن ما كان سيفعله إنْ نجح في ذلك!
كان أيايا يُبدل ملابسه عندما يحلو له ذلك مع أن هذا الأمر لم يكن معتادًا! والمكان الّذي يضع فيه أيايا ملابسه سريّ لا يعلم به أحدٌ، هذا إن جاز لنا وصف الخرق البالية الَّتي بحوزته بالملابس. والظَّاهر أنَّه كان يقضي جُلّ وقته خارج المنزل، وعندما لا يكون مرتديًا لزي “رجل الشُّرطة”، فإنَّه كان يظهر فجأةً مرتديًا أشياءً تجمع بين الملابس الرَّثة لأحد الجنود والمُهلهلة لأحد الدُّبلوماسيّين. كانت ربطة عنقه حبلًا قذرًا بدت قذارته أبرز وأشد وضوحًا لأنَّ أيايا لم يكن يرتدي قميصًا، بل سترةً أصغر من مقاسه بثلاث مرات، ولها كمٍ واحد يصل طرفه أدنى مرفقه بقليل. واستكمالًا لهذه التَّركيبة العجيبة، كان أيايا يرتدي الحذاء العسكري القديم نفسه، وخوذة حربية مُطعجة خضراء اللون، وزوجين من النَّظارات لا عدسات فيها.
بعد ذلك بسنوات، وعلى مبعدة أميال من المكان الذي رأيته فيه آخر مرة، وتوخيًا للدقة، على الطَّريق السريع في ضواحي المدينة، شاهدت الصَّغير أيايا ثانيةً. الفرق هذه المرة هو صعوبه تمييزه بوصفه بشرًا، لأنَّه لولا بقايا الملابس التي تكسو جسمه، والعيون الغريبة والمُحتقنة بالدماء الَّتي كانت تُحدق إلي بلامبالاة، لم أكن لأعرف قط أنَّه أحد معارفي القدماء.    
الرَّائحة الكريهة هي أوّل ما لفت انتباهي، ثُمَّ الطُّيور- العقبان تحديدًا- الَّتي تفرُّ بترددٍ من المكان كلما اقترب الناس، لتعود بعد ثوانٍ قليلةً مع خلو السَّاحل طلبًا لبعض اللُّقيمات اللَّذيذة. كان جسم أيايا ملقيًا على جانب الطَّريق، شائهًا وممزقًا ببشاعة، مع خيوط من اللَّحم المتحلل المنغرزة في الأسفلت الحارق بفعل إطارات السَّيارات والشَّاحنات الَّتي واصلت دعسه في اللَّيلة السَّابقة، مع أنَّها كانت تجتاز الطَّريق بسرعةٍ بالغةٍ لتجنب كومة اللَّحم الَّتي يتعذر التَّعرف إلى صاحبها حاليًا. في صباح اليوم التَّالي، استمرت الشَّمس في إرسال أشعتها على ما تبقى من أيايا الَّذي مرَّ السَّابلة من جانبه بلا مبالاة، وهم يغطون أنوفهم تجنبًا للرائحة الكريهة الَّتي ملئت المكان، وفيما عدا بعض النَّظرات العابرة، كانوا بالكاد يكترثون لكومة اللَّحم المتبقية هذه. الواقع أنَّ لا أحد منهم مهتمٌ حقًا. لم يكن هناك أحد لمواراته الثَّرى. ولم يكن ذلك ضروريًّا لأنَّ ليلة أُخرى تحت إطارات العدد الكبير من الشَّاحنات الَّتي تمرُّ قريبًا مما تبقى منه كل بضع دقائق كفيلةٌ بترك أقل القليل منه. وهذا القليل ستعتني به الحيوانات القمَّامة في آخر اللَّيل! وعلى أيَّة حال، لم يكن بوسع أُسرته أنَّ تُقيم له جنازة. أمَّا السُّلطات المحليَّة فكانت قانعة بتجاهل الأمر وترك الطَّبيعة تتصرف بدلًا عنها.  ففي غضون يومين، وبوقت أقصر مما كان سيستغرقه جهاز الحكومة البيروقراطيّ في الاستجابة لهذا الحدث، كان الخطر المحتمل على صحة الإنسان، الَّذي هو أيايا، في طريقه إلى التَّلاشي إلى الأبد.
سألت لاحقًا عما حدث مجموعة صغيرة من المتاجرين الَّذين يبيعون بضائعهم على مقربة من المكان، فأخبرني أحدهم بأنَّ أيايا قد دعسته مركبة مسرعة فرَّ صاحبها من المكان في اللَّيلة الماضية، وبأنَّه لم يعرف قط ما نوعها. وفي الصَّباح، الله وحده كان يعلم عدد المركبات الَّتي هرست الجُثَّة المُتمزقة المنكوبة. شعرت بالأسى يغمرني لهذا المسكين. ما أتعس هذه النِّهاية. هل ثَمَّة حياة أكثر بؤسًا وتفاهةً من الحياة التي عاشها هذا المحروم المُعدم المُلقى وحيدًا على الأرض “محرومًا من كل شرفٍ، لا أهل يبكونه، ولا أصدقاء يرثونه” بكلمات والتر سكوت.
الوداع أيايا، الوداع. فلترقد روحك بسلام.