قاسم جمعة
ليس جديداً، أن نقول إن الرقابة رهان السلطة في البقاء على قيد الحياة بمختلف المشارب، لكن جديدها أن تكون (أنت) راغباً بمراقبتها العميقة لنفسك، وهذا ما يخشاه المبدع أياً كان لونه، فيلسوفاً شاعراً أم رساماً، أم مثقفاً يهوى الترحال والصمت ديدنه.. وهو بالضبط ما مورس على كانط وكتابيه الدين في حدود مجرد العقل ونزاع الكليَّات. ومع سبينوزا من قبله عندما نشر أعمالا له بغير اسمه. وكيركجارد بأسماء مختلفة ونيتشه في آواخر أعماله حيث كانت ألزابيث أخته تراقبه بروح نازيَّة وتنظم علاقاته بالعالم الخارجي، لا سيما مع أصدقائه أو مع أصحاب دور النشر لأعماله.
فالرقابة أُخترعت من جوهر خوفنا ورضانا بالخنوع، فاحتفلنا بعيد ميلادها المجيد يوم صارت ماهرة في اقتناص مكامن الرعب الذي يخترق كياننا، وصارت مفاتيح التحرر وأسراره، بيدِ من يكبت طموحنا بالتغيير.
والسلطة أقنعتنا بحكاياتها الرمزيَّة، والأعراف وهابيتوس الأجداد القدامى ولغات الحكي، وأسراب التحشد القطيعي، التي انسابت من مارد الضعف الكامن في خلايانا.
حكاية الصراع بين الفلسفة أو الكليات الدنيا، أو السفلى وكليات العلوم الأخرى اللاهوت والقانون والطب، أو ما تسمّى الكليات العليا، كما يناقش كانط في كتابه نزاع الكليات، تكشف لنا أنَّ الرقابة على المكتوب، تنشط ألاعيبها الانضباطيَّة، وقتما إلتمست الكتابات طيفٌ من الحريَّة، وهمَت بالخروج للعلن، الأشباح المكبوتة للأقلام المنتظرة إعلان الفجر.
فلقد أرسل ملك بروسيا (فردريش فلهم الثاني) رسالة شديدة اللهجة إلى الفيلسوف كانط عام 1794، عبر وزيره (يوهان كريستوف فولنر)، إنَّ عليك أن تلتزم بما يُملي عليك ولا ينبغي لك خرق القانون، وإلا عرضتُ نفسكَ لعذابٍ شديد، لا عين رأتهُ ولا أُذنٌ شهدت سمعه، وهو يصف كانط، بأنّه معلّم الشبيبة.. فليس من حقه أن يزعزع قناعات دينيَّة أو اتفاقات مجتمعيَّة، فيراجع كانط قراره بالنشر، ويفكر مليّاً وبتأنٍ، وفعلاً لا ينشر كتاباته، إلّا متى ما زُفَّ خبر موت الملك، وظهور شمس للحريّات تلغي المنع.
الذي دشنه قرار ومرسوم ديني من وزير الشعائر (وزير الأوقاف) ثمّ تبعه مرسوم رقابي وكما ننقل عن كانط في كتابه (نزاع الكليات) "وبدافع من راهب (يقصد الوزير أعلاه) تدرج من بعد ذلك الى رتبة وزير لإدارة الشعائر -وهو رجل، إن أنصفناه حقه لم يكن لنا سبب لأن نقول في شأنه غير ما تدل عليه نواياه الحسنة والقائمة على اقتناع عميق، الى إصدار مرسوم ديني، أتبعه بعد ذلك بقليل بمرسوم رقابي، قيد تقييداً شديداً نشر المطبوعات بوجه عام، وأيَّد المرسوم السابق" (كانط من كتاب نزاع الكليات ص55).
وحين تمَّ قرار المنع كان كتاب كانط (الدين في حدود مجرد العقل) قد صدر.
ومن هنا يقول كانط في هامش توضيحي، حول عنوان كتابه الدين في حدود.. "لقد صيغ هذا العنوان هذه الصياغة عن قصد، حتى لا يُصار الى تأويل المصنف، كما لو كان يعني أنّ الدين مستخرج من مجرد العقل (من دون وحي) وكأنَّ الأمر قد كان مبالغا في الادعاء، ذلك أنه كان من الممكن مع ذلك أن تصدر تعاليم الدين عن رجال ملهمين من الغيب سوى أني أردت أن أعرض فقط عرضا متماسكا أن ما ورد في نص الدين الذي يُعتقد انه منزل، أي الكتاب، يمكن أن يعرف أيضا بواسطة مجرد العقل" (هامش ص56 من كتاب كانط نزاع في الكليات، مع ملاحظة أن النصوص المستخدمة بالمقال مأخوذة من كتاب كانط نفسه، نزاع الكليات، ترجمة فتحي إنقزو دار صوفيا الكويتية). والأغرب رسالة كانط التي جاءت بالرد على البيان الملكي المهدد للفكر الحر، الذي يمثله (كانط صديق التنوير) الذي كتب رسالة طويلة سوف أقتطف منها شذرات معبرة عن مدى الخوف والرعب، الذي كان يعانيه فيلسوف التنوير من بطش الظلاميين كما يصفهم. كانط الذي نصّت مقالته عن التنوير، (إنَّ على الانسان، أن يكون شجاعا ويستخدم عقله!).. يكتب بلغة (مذلة) خاصة عندما يقول: أضع بين قدميك من دون تقصير، بالبيان التالي...، وعندما يقول أيضا: الدليل على طاعتي وخضوعي لجلالتكم..!، مخاطبا الملك.
ينبري بعدها ليوضح للملك نقطتين اساسيتين: الأولى ما يخص تشويه التعاليم الدينيّة المسيحيّة وتزييف عقول الشبيبة.
وهو ما يذكرنا بالتهمة الموجهة لسقراط بتزييف عقول الشباب اليوناني، وبقوانين المنع التي صدرت بحق سبينوزا و(الحرم) الذي أصدرته الرقابة اليهوديّة على شخصه وكتاباته وعلاقاته.
بما يشبه الإقامة الجبريَّة. فحياة الثقافة وموتها بيد سلطة الرقابة وديناميكيتها وإجراءاتها المؤسسة لقطيع الطاعة والانصياع.
وهذه القوانين الرادعة لحرية التفكير، تدلل بلغة واضحة، أن هناك من يملك ناصية الفهم والتأويل للنص وهو من له الحق البت في أسراره، ألا وهو الدولة أو السلطة.
وهو ما يمثله مصطلح دين الدولة، الدين الرسمي. ويبدو أنّها لوثة فلسفيَّة مأخوذة من اليونان واستلهمها توماس هوبز في بلورة فهم مدني للدين.
فكانط يوضح للملك أنّه لا ينبغي أن نحكم على المسيحيّة، لأنها حقيقة لا يطالها لغط وزيف، ونصوصه لا تجرؤ أبدا على تناولها بالقذف أو الطعن، حتى أنّه يقول "أما الغلط الحاصل عن التوغّل خارج حدود علم نملك ناصيته، أو خلطه بغيره، فذاك أمر أدنى ألا يؤاخذ عليه من كان حريصاً دوماً على التحذير منه".
فهو لم يكن "مناهضاً لمقاصد الولاية العليا" ولا "إلى التجريح في دين الدولة" فهو يوافق من يقول إنَّ السلطة صاحبة الشأن والرأي في أمور الدين والسياسة، بل هو يتملّق للسلطة أكثر بالقول: إنَّ على سلطة الرقابة (المتشكلة من رجال دين وفلسفة) أن ترفع تقاريرها للدولة وهي التي تحسم الأمر. وعلى أي حال فكانط لم ينتهك المسيحيّة وتعاليمها، وما أراد مناقشته في كتاب الدين في حدود مجرد العقل، البعد الاخلاقي العملي.
والمناقشة العقليّة للدين تنوي التدليل على أنه (الدين او المسيحيّة بمعنى أدق) يرتكز على قيم الاخلاق الكلية.
ونقطة كانط الأخرى التي أراد توضيحها للملك هي براءته مما ينسب اليه، فهو يشهد على الملأ أنّه يتبرّأ من كل ما ينسب اليه، بل إنّه ينوي الامساك عن الكتابة أو التصريح بهذه الموضوعات، فهو يعلن أنّه من أوفى رعايا الملك "بما يجعلني في المستقبل أمسك تمام الامساك عن كل الاحاديث العموميَّة في شأن الدين، الطبيعي أو المنزل، سواء كان ذلك في الجروس أم في المنشورات".
لا بأس أن تكون مطيعاً لقانون ينوي حماية حريتك. لكن ينبغي أن يراعي هذا القانون مساحة حريتك ومدى تدخله الاستثنائي.
وأن تراعي أنت حريتك، المسؤولية الاجتماعية وهو جانب آخر يحتاج إلى وقفة فكريّة ونظر عقلي.