هل تمثّل الأدب العراقي مفاهيم الحداثة؟
صفاء ذياب
انشغل الأدب العراقي الحديث منذ أربعينيات القرن الماضي بمفاهيم التجديد والتحوّل، ساعياً لمواكبة التغيّرات التي طرأت على مفاهيم الأدب العالمي، وربّما كانت قصيدة (أفروديت) للجواهري منطلقاً لكسر رتابة القصيدة العمودية، على الرغم من التزامها بمعايير تلك القصيدة، غير أنَّها حاولت الخروج عليها ولو بتجديد محدود.
وعلى الرغم من ريادة نازك الملائكة وبدر شاكر السيّاب بكسر عمود الشعر، والخروج عن القافية فيه، إلا أنَّ الكثير من النقّاد يرون أنَّهما لم يخرجا بشكل جديد كلّيا على القصيدة الكلاسيكية، وهما بشكل أو بآخر، كانا ردود فعل على ما حدث في القصيدة الإنكليزية والفرنسية، فضلاً عمّا عُرف بالشعر المنثور، ومحاولات عديدة قبل أولئك الساعين لمواكبة العصر الأخير من الحداثة، ثمَّ ما بعد الحداثة التي جاءت كثورة على النظم الفكرية والفلسفية السائدة حينها.
من جهة أخرى، يشير نقّاد ومعنيون إلى أنّنا على الرغم من هذه التجارب، لم نتمكّن من مواكبة المدارس الفكرية والفلسفية الغربية، حتى إنَّهم يرون أنَّ محاولاتنا في التجديد لم تكن إلاَّ تلويناً لما قُدِّم في الثقافات الأخرى، فأين التجارب الجديدة التي قدّمتها الحداثة منذ بداياتها وسعيها لكسر رتابة الأشكال الكلاسيكية للأدب، ومن ثمَّ أين ما بعد الحداثة بكلِّ ما فيها من خروج على معايير سائدة منذ قرون طويلة؟.
ومن ثمَّ، يمكننا أن نتساءل: هل تمكّن الأدب العراقي من تجاوز مفاهيم الحداثة الكلاسيكية؟ وهل يمكن أن نصل لما بعد الحداثة على الرغم من تجاوزها في الغرب منذ عقود؟.
جدوى الشكل والمحتوى
يرى الناقد ياسين النصير أن الأدب العراقي لم يتمكّن على مستوياته كلّها من مجاورة أيَّة مرحلة في الحداثة، فالحداثة ليست مرحلة واحدة، وإنَّما مستويات من المراحل، كلّ مرحلة تختصُّ بجانب منها، الحداثة الشعرية في العراق بدأت خارج أيّ مدرسة، فرضتها عوامل داخلية ذاتية وموضوعية عالمية، تمثّلت في وعي الشعراء بالتراكم الكمّي الهائل من الأنماط الشعرية القديمة، عُدَّ الخروج عليها تحديثاً، وانصبَّ في أوّل الأمر على الشكل، وهذا لا علاقة له بالحداثة الغربية، ثمَّ إنَّ هناك عوامل خارجية تمثلت بأوضاع العالم بعد الحرب العالمية الثانية ونهوض قوى اليسار والهامش وانهيار الفكر القومي الفاشي في ألمانيا، وانتعاش حركة التحرير في العالم، وهذا كلّه لا شأن له بمجريات منهجية الحداثة إلَّا في المجاورة لها وليس في الاستفادة منها، وثالثاً كانت هناك ثورة أكتوبر السوفيتية وتأثّر شعوب عديدة بها ومنها شعبنا والمثقفون العراقيون في مقدّمتهم. وهذا التأثير عاطفي أيديولوجي وليس فنياً، ما يعني أنَّنا لم نقترب من الحداثة أيضاً إلَّا بحدود الصور النثرية المحمّلة بالشعر. لكنَّ النزعة الإبداعية عند جيل الروّاد؛ والسيّاب في المقدمة منهم، كانت مبنية على ثلاثة عوامل: الأول تشبّعهم بالثقافة الشعبية، وهي المصدر المهم للحداثة، لأنَّها تعتمد الكلام الشفاهي المتغير، والثاني مواهب ذاتية وقدرات أسلوبية، كما أنَّ البيئة المكانية لها حضور، وهي في مفهومها الطبيعي بنية شعبية دينامية: فلاحة واقتصاد وتقاليد وزراعة وثقافة. العامل الثالث نفسي وذاتي مصدره النثر والرومانسية الثورية، وليس الشعر، وهو أنَّ الشاعر ناثر أول الأمر ثمَّ شاعر بعد ذلك، وكلَّما شاع النثر برز الشعر في أسلوبه.
موضّحاً أنَّ الشعراء لا يعرفون هل الحداثة الكلاسيكية مرحلة؟ وهل الحداثة الرومانسية مرحلة؟ وهل الحداثة الفنية مرحلة؟ وهل الشكل أكثر جدوى من المحتوى... إلخ، هذه الأسئلة لا يعرفها الشاعر. وقلّة من أولئك الذين يميّزون بين مراحل تشكيل الحداثة.
ويضيف النصير: ما يحزنني أنّه لم تكن دار المعلمين العالية، ولا الجامعات العراقية، ولا من أتقن اللغة الإنكليزية، قد اهتمّوا بالثقافة والشعر تحديداً، لقد انشغلوا بذواتهم من دون أن يكون لهم حضور ثقافي، في حين نرى أقرانهم في بلدان عربية وفي الثقافات الأخرى قادوا الحداثة على مستوياتها المختلفة. وأسّسوا ثقافة جذرية بالضد من الثقافة الاستعمارية. عَدَّ العديد من المثقفين أنَّ إتقان اللغة الإنكليزية يدخلهم الحداثة، في حين أنَّ الثقافة الآسيوية الهندية والصينية والباكستانية جعلت من تعلّم اللغة الأجنبية تأسيساً لثقافة مضادّة للكولينيالية، وهو ما نلمسه في تيّارات الحداثة في أوروبا، أنَّها قامت بالضدِّ من الثقافة الاستعمارية، مثل إدوارد سعيد وهومي بابا وإعجاز أحمد وبيفام غيتاري وغيرهم.
مجافاة القيم
ويتساءل الدكتور ضياء الثامري؛ هل يمكن أن نعدَّ ما بعد الحداثة مجرّد تمرّد على التقاليد الفكرية والثقافية؟ إذا كان الأمر بهذا الشكل فإنَّنا نعيش عصر التمرّدات الحادة، لقد ذهبنا بعيداً في مجافاة القيم الراسخة بدعوى أنَّها غير قادرة على مجاراة الراهن واستيعابه.
الوضع في أوروبا يختلف كلّياً عمَّا هو عندنا بسبب وجود منظومات فكرية وفلسفية عاينت السائد بدقّة، ثمَّ عدّلت وغيّرت وطوّرت بما يتماشى مع تفاصيل الحياة هناك، والأدب بكلِّ تأكيد جانب مهم في هذه الحياة. الغرب يشتغل بوعي يأتي من الداخل ويستوعب الأشياء كلّها، حتَّى إذا ما ذهب إلى التغيير صار الأمر طبيعياً، وهذا الأمر واضح في انتقالات الأدب الغربي، والأمر عندنا يختلف تماماً، لأنَّنا نفتقد أساساً إلى وجود المنظومات الفكرية المنسجمة مع بعضها والقادرة على التغيير. وفي مجال الأدب، لم تتبلور عندنا مفاهيم واضحة لمعظم التيّارات، وأبرزها مفاهيم الحداثة، وبالتالي لا يمكننا الحديث عمَّا هو بعدها، نحن إلى اليوم لم نتفق على الأساس المعرفي الذي يخصنا في مفاهيم الحداثة، وصار جلّ اشتغالنا مجرّد تغييرات في الأشكال من دون العناية بما يمكن أن تحقّقه، إذا كان تغيير الأشكال يقع حقّاً ضمن مفهومي الحداثة أو ما بعدها.
ويضيف الثامري: في الحياة كلّها ثمّة تدرّج حتمي ينبغي أن يكون بالشكل الذي يأتي عليه، إذ إنَّ قانون التطوّر الطبيعي لا يعمل بالطفرات البعيدة، وأرى أنَّنا نخالف هذا الأمر في أدبنا، فكثيراً ما تكون هناك طفرات، لكنَّها لا تصمد، فنعود إلى الوضع الأوّل لأنَّنا لم نحدّد مسبّقاً الخطوة التالية، الأدب العراقي حقيقة يعيش حالة من الانفتاح من الصعب أن نحصرها بجغرافية واضحة.
سطوة الأنساق التقليدية
ويؤكّد الشاعر الدكتور دريد الشارط أنَّ الأدب العراقي، والعربي عموماً، سعى منذ القرن الماضي إلى التحرّر من القيود والأنماط التقليدية، التي وجدها عاجزة عن تحقيق طموحاته في خلق هويته الإبداعية المواكبة للتجارب الحديثة وحركات التطوّر الأدبي التي يشهدها الغرب.
غير أنَّ محاولاته المتلاحقة لم تخرجه من دائرة التقليد الذي يمكن أن نتلمّس هيمنته في طبيعة البناء الفني المستند إلى قواعد وأنظمة كلاسيكية باتت متعارفة، حتَّى إنَّ سعيه إلى الانسلاخ عن القوالب الكتابية القديمة والاتجاه إلى محاكاة التجارب الغربية لم يحقّق له هويّته الإبداعية الخاصة، بل جعله أسيراً لأنماط كتابية تعدُّ كلاسيكية في القياسات الزمنية الحديثة.
ما يعني أنَّ المحاولات الأدبية التي كانت تهدف إلى ابتكار حالة من القطيعة مع الماضي، عبر تشكيل بنية ذهنية تتعارض مع البنى التقليدية، لم تتسبّب إلَّا في خلق حيرة وحاجة إلى إيجاد نسق معياري جديد لطالما ارتدَّ على نفسه وكشف عن حقيقته التي لا تتعدّى كونه لعبة صورية لم تصمد أمام سطوة الأنساق التقليدية وهيمنتها التاريخية على الأنماط الأدبية، ما دعا الأديب العراقي إلى التحرّك باتجاه الحداثة الكلاسيكية، رغبة في سبر عوالم الأنماط التقليدية وإعادة تشكيلها ضمن مفاهيم ورؤى فنية وموضوعية معاصرة، فاستطاع من خلالها تأسيس خارطته الإبداعية ضمن إطار فني واعٍ فتح الآفاق لمحاولات جديدة يمكن لها الانتقال بالأدب العراقي إلى ما بعد الحداثة.
هواء كلاسيكي
ويكشف الدكتور كامل صالح عن أن الأدب، والحداثة، والشعر والفن، لم تبلغ غايتها النهائية في التحديد، إذ إنَّها بقيت مصطلحات مختلفاً عليها، وإذا أخذنا مثلاً مصطلح الحداثة، نواجه بتحديدات متعدّدة لمفهومها وتاريخ بدئها، ولعلَّ أرجح الآراء في ذلك أنَّها بدأت في العام 1436 ميلادية، وهو تاريخ ظهور الطابعة على يد الألماني كوتنبورغ.
وإذا عدنا إلى الأدب العراقي وتفاعله مع الحداثة ومفاهيمها ومدى انسجامه وتعارضه معها.. نجد أنفسنا أمام أدب يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى في هذا المجال. فقد تسابق البعض إلى تجريب أساليب حداثية قلّد بها ما ترجمه من الأدب الغربي، نجد البعض الآخر يبالغ في ابتكار أشكال حداثية جديدة من دون أن يجد لها تبريراً، كما حدث مثلاً في العديد من الكتابات الروائية وعدد من المحاولات الشعرية التي خرجت بالأدب إلى نواحٍ مجهولة لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هبطت إلى قيعان سحيقة لا طائل من ورائها. لهذا وغيره، نقول إنَّ الأدب العراقي بذل جهوداً كبيرة في التجريب والتحديث، مع المبالغة في كثير من الأحيان، ولكنَّه بقي يتنفّس هواء الكلاسيكية المستحدثة، وهي بلا شك كلاسيكية عرجاء لا تنهض بمستوى العمل الأدبي ولا تؤدّي رسالة بعينها، بل أُغرقت في الإيهام والترميز والغموض أحياناً، والسذاجة في كثير من الأحيان.
حاضنات فلسفية
وبحسب الشاعر الدكتور عمار المسعودي فإنَّ بيئاتنا الثقافية غير جاهزة لاستقبال جوهرية ما يحصل كونيّاً من تغيّرات عميقة على مستوى التفكير أو بمستوى التدبير بشأن التصوّرات عامة، إن كانت حول ماهية الوجود أو عن جدوى الإبداع وفحواه.
بشأن ثقافتنا التي بلا حاضنة فلسفية ماسكة بجوهريات التحركات والتأمّلات؛ سيكون من الصعب تصوّر وجود حداثة، إن كانت كلاسيكية أو ما بعد حداثية. فالمشهد الثقافي محفوف بالخطر الداهم عن أنملة في إصبع مجنون؛ ليكون كفيلاً بمحو أيّة حداثة، وبتدبّر قرائي يقع خارج منظومات الاندهاش المبعوث أيديولوجياً أو لمجرّد إحساس بنزهة المخالفة، يكون المشروع الريادي التفعيلي مجرّد عبث في الشكل مع استدعاء لعلامات ثقافية أسطورية وسواها لملء فراغات غياب القافية الموحّدة. فالحداثة الكلاسيكية ظلّت لعباً في الأشكال من دون تفجيرات مهمّة في اللغة ببعدها السري، وقد نتمكّن من أجل ذلك من تقديم التجربة الصوفية مضادّاً ثقافياً عرفانياً نجح في الرد على بيانية المتن الثقافي بسلطة ومبنى وتصورات.
وهذا ما يدفعنا للقول بأنَّ التجربة كانت شكلية وليست لغوية، قد يكون الأمر الحداثي مرهوناً بتجارب العقد الثمانيني الذي قام بتشفير آلامه، وقد أكملت التجربة التسعينية ذلك بإنزال المشفّر إلى تمثلات أرضية، فالحداثة- بحسب اعتقادي- تحتاج لبعد فلسفي لم ينوجد في أدبنا العراقي.
أسرى الآخر
ويختتم الفنان والكاتب هاشم تايه حديثنا مؤكّداً أنَّ أدبنا وفنّنا العراقيين معتقلان في أشكال أدبية وفنّية تنتمي إلى بيئات ثقافية غربية، ونحن لا يعنينا إلَّا تقليدها والاستقواء بتقنياتها ومجاراتها. إنَّ أديبنا لا يعنيه إلَّا أن يكون نسخة أخرى من أديب غربي شهير. وفناننا هو الآخر معني بالاقتراب من التكنيك الذي استثمره فنان غربي.. نحن؛ أدباء وفنانين، أسرى نماذج وتمثيلات أدبية وفنية وضعتها الثقافة الغربية وقيّدتْها بأنظمة وقوانين محدّدة، ولا يعنينا إلَّا الامتثال لها في إنشاءاتنا. وما إن نرى أحداً فينا يتخطّى تلك الأنساق والقوانين في ما ينتجه، حتَّى ينال منَّا التقريع والاستهجان والتجهيل، غير مدركين أنَّ كلَّ نموذج إنشائي بنائي مهما تكن وجاهته، هو احتمال شكلي من احتمالات شتَّى قائمة مع الزمن ومعروضة للاستثمار وتحت طائلة الخيال.