النِّسْوية في مؤلفات إيزابيل ألليندي

ثقافة 2024/01/17
...

 

باقر صاحب 



كثرةٌ من الكتّاب والنقاد، تناولوا صاحبة الروايات الأكثر مبيعاً في العالم، التشيلية إبزابيل ألليندي، تناولوها أدباً وسيرة حياةٍ وناشطةً نِسْويّة. ذكروا بأنّ ثيمة النضال ضد الذكورية المهيمنة في العالم، نمتْ لديها منذ الطفولة، منذ أن وعت على والدتها بانتيشتا، وقد هجرها زوجها، وهي أمُّ ثلاثة أطفال، من ضمنهم، هي التي وُلدت عام 1942، هجرها، وهي لا تمتلك مورداً مالياً، لإعالة صغارها..
ومنذ أن اصبحتِ ألليندي في كامل نضجها، وبعد أربعين عاماً في الكتابة الروائية، أيقنت المناضلة النِّسْوية العتيدة بأنّ إلغاء النظام الأبوي أو إنهاء السيطرة الذكورية في المجتمع، يستوجب قفزةً كبيرةً، وتصاعدَ نموِّ حضارةٍ مختلفةٍ جذرياً، وهي لن ترى تلك الثورة الحضارية تتحقق، وهي على قيد الحياة. وفي نظرها، إن الثورة النِّسْوية، ككل الثورات، بدايتها غضبٌ كبيرٌ وإحساسٌ قاهرٌ بالظلم يحتاجُ إلى تصحيحٍ شاملٍ للأمور .  

وبالتزامن مع كونها كاتبةً روائيةً عالميةً محترفة، أنشأت مؤسسةً إنسانيّة، لأجل تدعيم النساء في مجالات الصحة والتعليم والاستقلال الاقتصادي والحماية من العنف، وتوسّعت مهامّ المؤسسة، لتشمل مساعدة اللاجئين، خاصةً أولئك  الذين يتواجدون على  طول الحدود الجنوبية للولايات المتحدة. 

ثيمة النضال من أجل النِّسوية، والانتقاد الشديد للذكورية المهيمنة في غالبية مجتمعات العالم منذ قرون، تمثلت في رواياتها، ويذكر الكاتب والناقد السوري المقيم في باريس، أن ألليندي” منذ روايتها الأولى «منزل الأشباح» 1982، مروراً بالمؤلفات غير الروائية الأربعة التي سبقت الكتاب الأخير، انشغلت ألليندي بالمرأة؛ تماماً كما فعلت على امتداد أطوار حياتها التي بلغت بها اليوم سنّ الثامنة والسبعين، وتقلّبات ما شهدتْ من أزمنةٍ وأمكنةٍ ورجال (ولادة في البيرو وليس التشيلي، ورحلات في أربع رياح الأرض، وثلاث زيجات بينها طلاق وقع في سنّ الثانية والسبعين!). 

ونورد هنا على  سبيل المثال روايتها “فيوليتا”، الصادرة عام 2022، وفيها شخصية “خوليان” الذي يمثّل السلطة الذكورية، ويترابط معها انحلالهُ الأخلاقي المحفّز، فيمارس العنف الجسدي مع بطلة الرواية “فيوليتا”. فيوليتا التي أحبّته بجنون، وأنجبت منه ولدين غير شرعيّين، أدركت، بعد فوات الأوان، أنّ ضعف شخصيتها إزاءه، دمّر حياتها. مع ذلك الإدراك المتأخر، تنشئ فيوليتا جمعيةً تُعنى بضحايا العنف الذكوري، كما تعنى بانتزاع حقوق النساء، مثل حقّ التصويت.       

  “نساء روحي” أنموذجاً 

هذا  الكتاب، الصادر عن دار الآداب، العام الماضي، بترجمة: مارك جمال، عنوانه الرئيس: نساء روحي، وعنوانه الفرعي في الصفحة الأولى من الكتاب: نساء روحي/ عن الحبّ المتلهّف، والعمر المديد، والسّاحرات الطيبات، وهو مُهدى: إلى بانتشيتا، وباولا، ولوري، ومانا، ونيكول وباقي النساء الاستثنائيات في حياتي. بالتأكيد أن النساء المذكورات عاضدنها في إعلاء شأن النِّسوية، المفهوم الندِّ للذكورية. هو كتابٌ سيروي، مشبعٌ بالتأملات، وعلى ضوئه، أوردنا في عنوان المقالة مفردة “ مؤلّفات” لأنَّ ألليندي أصدرت خمسة كتبٍ غير روائيّة، بضمنها هذا الكتاب. 

متن الكتاب يتشكّل من فقراتٍ لا يربطها رابطٌ عضويٌ متين، بل كلّ فقرةٍ مستقلةٍ بحدّ ذاتها، المحور الكلي الحاضر في المتن هو حال المرأة الآن، في خضمّ التطوّر التكنولوجي وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف كان حالها قبل عقود. 

نضال ألليندي ضد الذكورية لأجل إعلاء شان النِّسوية، كانت بواكيره في صباها، وامتدّ إلى مراهقتها، ومن ثمَّ بلوغها، وتذكر أن والدتها بانتشيتا كانت تحذّرها من أنها لن تجد زوجاً يتناغم مع أفكارها هذه، ولكن تلك كانت معادلة صعبة، كانت ألليندي في حالة قلق، من أنها ستنضمُّ إلى طابور العانسات الطويل، التي تلوح علاماته حين تصبح المرأة بعمر 25 عاماً. 

ألليندي من خلال الحديث عن نساء روحها، تركّز على وجهات نظرهن عن قضية النِّسوية، على سبيل  المثال والدتها، فتقول عنها “ وُلدت بانتشيتا قبلي بعشرين عاماً، فلم يسعفها الوقت لتلحق بموجة النِّسوية. ولكنّها أدركت المفهوم، بل أعتقد بأنها كانت ترغب في ذلك لنفسها، نظرياُ على الأقل. “: ص22. 

تبدو ألليندي كالفرس الجموح في تحقيق نضالها من أجل النِّسوية، وأجرت أحاديثَ طويلةً مع بانتشيتا بشأن ذلك، ذاكرةً أنَّ غضبها المغروس منذ الطفولة علَّمها بمرور الزمن أن تسدّد ضربتين على كلّ ضربةٍ واحدةٍ مُوجّهةٍ لها. وتصف ثورة النِّسوية بأنّها أشدُّ عمقاً وأطول عمراً من الثورة الروسية 1917، تلك الثورة التي تعتقد ألليندي بأنّها أهمّ ثورةٍ في القرن العشرين. ويخرج تعريف  ألليندي للنِّسوية عن الأطر القاموسيّة إلى البساطة النثرية فتقول” لا تكمن النِّسوية بين أفخاذنا، وإنّما بين آذاننا، إنّه موقفٌ فلسفيٌّ وتمرّدٌ على سلطة الرجل. إنّها طريقةٌ تسعى إلى فهم العلاقات الإنسانية ورؤية العالم، رهانٌ على العدالة، كفاحٌ من أجل تحرّر المرأة”: ص15 . وكتعريفٍ شاعريٍّ للنِّسوية، بلغة ألليندي الثريّة، تذكر بأنَّها انسيابيّة، قويّة، عميقةٌ معقدةٌ إلى مالا نهاية كالحياة. 

إحدى محطات نضال ألليندي من أجل النِّسوية هو عملها كصحفيّةٍ في مجلة” باولا”، مجلة أنثوية / نِسْوية، بحسب وصفها، رئيسة التحرير ديليا غارا صحفيّة شابةٌ رائعة الجمال، عاشت في أوروبا، لديها رؤيةٌ واضحةٌ للمنشور الذي تنوي إصداره، هُنّ اربعُ نساءٍ  شابّات في أواخر العشرينيات من أعمارهن، كنَّ” على أهبَّةٍ لزلزلة الرَّياء التشيلي”: ص28 . في المجلة تشكلّت ملامح ألليندي في نضالها النِّسوي، ولأجل ذلك اختارت كتابة عمودٍ عنوانه” هذّبي رجلك البدائي” إذ اتّخذتِ السّخرية من الذكورية متناً لها في هذا العمود لتعزيز النِّسوية.

مهمة تغيير العالم، قد تكون إحدى نوافذها هذا النضال النِّسوي، هناك هدفٌ إذاً، ومن غير ذلك سيكون غضبها  الذي تنامى منذ الطفولة مُضرّاً. تغيير العالم، نعم، لكثرة المحظورات التي تسعى هي وقريناتها المناضلات إلى كسرها: “كالجنس والمال والقوانين التمييزيّة والمخدّرات والعذريّة وسنّ الياس ووسائل منع الحمل وإدمان الكحول والإجهاض والدعارة والغيرة” ص 29. 

ترى ألليندي أن ذلك النضال انطلق منذ أكثر من نصف قرن، ولكن لم تتحقق أهدافه، وتذكر أنها صارت هي وزميلاتها المناضلات عجائز، وهي لا تخجل من ذكر ذلك” لأنّي أفتخر بكوني عجوزاً”:ص30 

تفترق ألليندي مع الناشطة والشاعرة الأميركية الراحلة سيلفيا بلاث( 1932- 1963)، فالأخيرة ترى أن مأساتها الكبرى بأنها وُلدت امرأة، بينما ألليندى  ترى أنّ ولادتها امرأةً نعمةً بالنسبة إليها، بل يزداد سرورها بانتمائها إلى جنسها كلّما تقدّمت في العمر، سرورها مبعثهُ أنّها أنجبت باولا ونيكولاس، فكانت أتعس لحظةٍ في حياتها عندما احتضرتْ باولا بين ذراعيها.

تعمّم ألليندي من خلال محاوراتها قضيّة انتماء المرأة إلى جنسها، وهل هذا مبعث فخرٍ وسرورٍ لها، وتذكرُ تفصيلاً مهمّاً في هذه القضيّة، بأنّ عديد النساء يعتبرن هذا الانتماء رائقاً لهن، لماذا: “ نظراً لقدرتنا على التعاطف، وتفوّقنا على الرجال في التضامن والتحمّل. وبما أننا نلد الأبناء، فنحن نسعى إلى الحياة، لا الإبادة. نحن الخلاص الوحيد الممكن أمام النصف الآخر من البشرية، ومهمّتنا منح الغذاء، أما التدمير فمذكّر “ص32 . وهنا في السياق ذاته، طرحت ألليندي تجربتها في تربية ابنها وابنتها، ولكونها امرأةً عصريّة، لم تسهمْ في استمرار الذكوريّة في تنشئة الأبناء على السيطرة والبنات على التحمّل:” اتّبعت ذلك النهج في تربية باولا، ثم تعمَّدت الاستعانة به في تربية نيكولاس. ماذا أردت لابنتي ؟ أن تجد اختياراتٍ مُتاحة، وأن تعيش في غير خوف”: ص33 

تتحدث ألليندي عن مواصفات المرأة المثالية، التي تسوِّقها إعلانات الدعاية والسوق والفنون ووسائل الإعلام والعادات الاجتماعية، وترى بأنّ تلك المواصفات تقود إلى تشيئة المرأة، ومن ثمَّ إلى استعبادها، وأكثر من يُغرَّر بهنَّ، النساء في طور الشباب. لقد وصلتْ صاحبة كتاب إلى قناعة، بأنّه حتى النّسوية لم تحرّرْها، هي ونظيرات جنسها، تقدّم العمر وحده يحرّر النساء، عندما يصبحن” كائنات خفيّة”، عندما لا يُعَدْن النساء مثاراً للشهوة، وكذلك حين تضرب النساءَ مأساةٌ كبيرة، كما حصل لها وهي في الخمسين من العمر، عندما ماتت ابنتها باولا وهي في ريعان الشباب.

 على وفق الفقرات المستقلّة للكتاب، ترى ألليندي أن تحرّر المرأة غير متناقضٍ مع الأنثوية. الروح الحرّة، بحسب وصفها تكون مثيرة، وهي لا تعدم وجود المُعجَبين خلال سني حياتها، كما أنًّ الرومانسية وفق وجهة نظرها ليست مُناقضةً أيضاً للنِّسوية، وتصف نفسها بأنها رومانسيَّةٌ عصيَّةٌ على الشّفاء، ولكنّ هذا لا يعني بأنَّها نجحتْ في أن تكتب روايةً رومانسيّة، فهي لا تمتلك” موهبة أستاذات الرواية الرومانسية”: ص49. 

وفي سياقٍ ذي صلة، تتناول ألليندي الشَّغف الجنسي والرومانسي،  فترى أن الشَّغف، على غيرِ ما يعرفهُ  الآخرون، ممّن يصوّرونه على نحوٍ قاتم، مثلا يرونه” اختلالاً أو شعوراً متلبّسا” بينما ترى ألليندي أنَّه “ حماسةٌ لا يُكبحُ جماحُها، وطاقةٌ متفجّرةٌ، واستسلامٌ مُطلقٌ لشيءٍ أو لشخص”: ص55 ، على هذا تحرص ألليندي على النظر إليه بأنَّه أمرٌ إيجابي، وتسرد بأنّها درّبت نفسها على أن تصبح “عَجوزاً شغوفة”، إلى الحدّ الذي لا تريد من  التقدّم في السن أن يفسد شغفها بالحياة. ومن هنا أحبّتِ ألليندي بطلة روايتها “ابنة الحظ” الصادرة عام 2000 ، إليسا سوميرز  لأنّها امرأةٌ باسلة، تسلّلت إلى سفينة شحنٍ مبحرةٍ عبر المحيط الهادي طوال أسابيع، حتى وصلت إلى كاليفورنيا، ذهبتْ مدفوعةً بالحبّ الجنوني لشاب، وظلّت تفتّش عنهُ في كلِّ مكان .

وعلى وفقِ شغفها العنيد، نرى أنَّ ألليندي تختفي خلف قناع بطلات كتبها الشَّغوفات، وبحسب تعليلها، لأنّهنّ مُجازفاتٌ قادراتٌ على القيام بأفعالٍ تنطوي على هوسٍ أو خطورة، فهي ترى أنَّ حياةً هادئةً لا تقدّم مادَّة جيّدةً للخيال. 

بالتأكيد تحرص ألليندي على الإجابة في كتابها، هي وبنات جنسها، على عن سؤالٍ: أيّ عالمٍ يُردْنَ ؟هنَّ يُردْن عالماً جميلاً، ليس وفق معايير الجمال الحسِّي، بل يتمُّ إدراكهُ روحيّاً، يُردْنَ حضارةً متوازنةً، مستدامةً قائمةً على الاحترام المُتبادل بين الناس، فضلاً عن احترام الطبيعة بكلِّ ما فيها من كائنات، وبنثرها الانسيابي الشَّفاف، تكتب” وفوقَ كلِّ شيءٍ، نُريد عالماً مُبهجاً. إلى هذا تصبو نفوسنا، نحن الساحرات الطيّبات. ليس  ما نرغب فيه خيالاً، بل إنَّهُ مشروع. ويمكن تحقيقه كلّنا معاً” ص134.

يمكن القول أن” نساء روحي” يُعدُّ ضمن كتب السيرة الذاتية، وقبله كان كتابا “ بلدي المخترع” عام 2003، و” حصاد الأيام” 2008، كما أنَّ إثنين من أعمالها الروائية وهما “باولا” 2018 و” فيوليتا “ التي أشرنا إليها آنفاً ، فيهما جوانب من سيرتها الشخصية والعائلية.