عادات وتَقاليد ماورية

ثقافة 2024/01/17
...

 باســـم فـرات



 في هذا المقال، حاولت ألّا أذهب عميقًا في عادات الـماوريين وتقاليدهم، كي أبتعد عن اللغة العلمية الجافة، وأجعله فصلًا سلسًا يليق بأدب الرحلات، ويغري بالقراءة الـمحمّلة بالمعرفة من دون ملل، ولأني لم ألتزم صرامة الكتابة العلمية (الأكاديمية) عنونته “عادات وتقاليد مـاورية” حاذفًا أل التعريف في كلمات العنوان، لأمنح نفسي هامشًا واسعًا من الحرية.

 خسر الـمجتمع الـماوري كثيرًا من أعرافه بسبب المسيحية؛ فضلًا عن عقلية الأوروبيين في القَرن التاسع عشر، الـمؤمنة بتفوق الإنسان الأوروبي والثقافة الأوروبية على بقية شعوب العالم، فكلاهما عامل مهـمّ في ما آلت إليه ثقافات كثير من شعوب العالم، هذه الثقافات التي هي ثراء حقيقيّ للبشرية.

 الماوريون مثل كثير من الشعوب يؤمنون بالجن، وبالخرافات، ولإيمانهم أنهم فقدوا خصوصيتهم الثقافية، فحين يتم ذكر الثقافة (العادات والتقاليد) أمامهم يشعرون بالجزع والحقد على الأوروبيين لأنهم السبب في ما آلت إليه عاداتهم وتقاليدهم، في الوقت نفسه، يؤمنون أنهم أكثر روحانية من الأوروبيين. فالإنسان الـماوري لديه هوس رومانسي حول هويته، في حين قد لا تكون هناك هوية ماورية واضحة تمامًا، وحين يتم الحديث عن هذه الهوية، فإنَّ كثيرًا من الماوريين يشعرون بالانسلاخ، وقد سمعت كثيرًا من هذا الجيل؛ أنهم يفعلون ما يريدون، على عكس آبائهم الذين يحرصون على اتباع تعاليم الأسلاف وما تركوه من وصايا، وأعني بهذا الجيل الذين وُلدوا في النصف الثاني من القَرن العشرين. 

 إنني حين أتأمل هذا الفقد في كثير من تفاصيل الثقافة (العادات والتقاليد) الذي أصاب معظم المجتمعات في العالم بسبب هيمنة العولـمة الغربية، والطراز الأوربي– الأميركي الاستهلاكي، وتنامي الفردانية على حساب العائلة والمجتمع، أشعر بألم ومرارة، ولكن تبقى الطريقة اليابانية التي توازن بين الحفاظ على العادات والتقاليد اليابانية العريقة، والانفتاح على الغرب، هي الطريقة الأفضل، التي تُعدّ بحق سببًا مهمًّا لنهضة اليابان وتقدمها على الرغم مما يشوبها من سلبيات دفعت علماء الاجتماع والغيورين على الخصوصية اليابانية لدق ناقوس الخطر، ودراسة الظواهر السلبية في الـمجتمع الياباني.

كانت تتم معاقبة الأطفال في المدرسة حين يتحدثون باللغة الماورية، والعقاب جسدي بطبيعة الحال، ما اضطر أسر الأطفال أن يتحدثوا حتى في البيت مع أطفالهم باللغة الإنجليزية، حرصًا على تجنيب أطفالهم العقوبات الجسدية في المدرسة، واستمر هذا الأمر حتى منتصف القَرن العشرين.

 لقد أوصل البريطانيون سكان البلاد الأقدمين إلى مرحلة احتقار أنفسهم، ولونِ بشرتهم، احتقار هويتهم بوصفهم ماوريين، فقد أوردَ الباحث “ويتي إهيمايرا” في كتابه (أن تنشأ ماوريًّا) حكايةً عن سيدة ماورية، أنَّ أمها كانت تخجل من كونها ماورية، ومن لون بشرتها، فتطليها بمبيّض البشرة، وتزعم أمام الناس أنها “إسبانية” وكانت تحرم ابنتها– أي المتحدثة– من السباحة مع إخوتها، لأنَّ بشرتها أقلّ بياضًا منهم، وتخشى على بشرتها من أن تزداد سمرةً، فتجبرها على الجلوس تحت ظل شجرة. فالطفولة كانت تتمزق حرمانًا وأسًى، بسبب لون البشرة والخجل منها، الخجل من كونك تنتمي لإثنية أو قومية أو ديانة أو مذهب أو بلد أو منطقة أو ثقافة ما، لهو جرم ينتمي بحق.. إلى ما أطلق عليه “الإبادة الثقافية”.

 إنَّ الإبادة الثقافية هي أن تشعر بالخجل من تاريخك وثقافتك، وحين يتصدى شخص لتوضيح حقائق التاريخ وتلمس فيها إيجابية تمس ثقافتك، تتهمه بالعنصرية، والتطرف، وحين يتحدث الآخرون عن تاريخهم العريق تتقبله، وحين تعلم أنهم يبالغون مبالغات كبيرة ولا عقلانية، تكتفي بالقول وبخجل “إنهم يبالغون” في حين تتقبل هجومهم الإلغائي والإقصائي على تاريخك وثقافتك، وتجد أفواجًا من قومك يؤيدونهم!. فالإبادة الثقافية هي حين يصبح البحث عن كل سيئ وقبيح في تاريخك هو ديدنك ومذهبك الذي لا تحيد عنه وتنفخ فيه حتى يتعملق، وتتجاهل بل تنكر كل ما هو جميل ومفرح ومدعاة للفخر والسبق الحضاري والجمالي، وتتهم مَن يتحدث به “بالشوفينية”، وتسخر منه، وتَنسب منجزات ثقافتك لثقافات أخرى، أو تزعم أنَّ أبطالها من الـمبدعين هم من أرومة أخرى، وكذلك حين تحتقر لغتك فتذهب وتتعلم لغة أخرى ناعتًا لغتك بالعجز الحضاري، تحاول أن تُلوّث فمك بلغة الـمحتل عادًّا هذا التصرف دليل تحضر ورُقي، وهو في جوهره انبطاح واستلاب وشعور بالدونية، لا سيّما حين تكون لغتك مالكةً تراثًا عريقًا عمره يزيد على ألف سنة، وعرفت غزارة التدوين قبل لغة الـمحتل.

 فالكاتب (ويتي إهيمايرا)، كان جده لأبيه أبيضَ (بريطانيًّا) وجدته ماورية، وكانا يعيشان تحت سقف واحد بلا عقد زواج، أي ما يُطلق عليه اليوم “الـمساكنة” وهذا بالثقافة الغربية والديانات الإبراهيمية، ليس زواجًا، في حين بحسب الثقافة الـماورية، يعدُّ زواجاً لا غُبار عليه، لأنه اتفاق بين طَرَفَي العلاقة على العيش معًا في الـسَّـرّاء والضَّـرّاء، وما نراه اليوم طبيعيًّا لم يكن في الأمس البعيد كذلك.

الـماوريون الذين في عروقهم دماء غير ماورية، لا يهتمون باتباع التقاليد الـماورية بوصفها تنم عن أصالة، بينما قرأت لامرأة مواليد (1974) أنها وبسبب لون بشرتها المطابق للأوروبيات، ولأنَّ الناس تتعامل معها بوصفها أوروبية أو كما يُطلق عليهم هنا في هذه البلاد وباللغة الـماورية “باكِهة” فهي تشعر بالحزن والاستياء؛ هذه الـمرأة ما كان لها أن تنسب نفسها للـماوريين، لولا القوانين الـمستحدثة التي بدأ سَنّ أحدها في عام ولادتها، أي عام 1974 ميلادية، حين عُدّل قانون تحديد الهوية الثقافية، ثم عام 1986 ميلادية، لم يعد الحد الأدنى من صلة النسب “الدم” موجودًا في القانون.

أي أصبح الانتماء القومي والإثني إحساسًا، لا يتطلب إثبات النسب من الأب لعشرات الأجيال، وهو ما أدّى إلى قيام كثير من النيوزلنديين الذين تفضح لون بشرتهم البيضاء الـمطابقة للبشرة الأوروبية بعامة والبريطانية بخاصة، إلى الادعاء بالـماورية (أي الانتماء الإثني) لـمجرّد وجود نسب ضئيل يربطهم بالـماوريين، وبهذا تخدمهم بشرتهم الأوروبية أمام الأوروبيين في البلاد، وادعاءاتهم أمام الـماوريين، ويُقال: إنَّ في ذلك منافع لا يعلمها كثير من الناس خاصة الـماوريين.

 يؤمن الـماوريون بأنَّ عدم تتبع الدقة في ممارسة الطقوس والعادات والأعراف يجلب سوء الحظ، وحين يصبح هناك نقص في الأكل في دعوة، إن كانت دعوة فرح أو مناسبة حزن، أو أي مناسبة اجتماعية، يلاحق الشخص أو الأسرة عارٌ لأعوام، ويحق في الـمراي للزائر أن يؤشّر على الخطأ في التنظيم والخطوات المتبعة عرفًا لو وجدها.

 وإذا أقدموا على فعالية مهمة تكون في الفجر دائمًا، مثل افتتاح بناية جديدة أو معمل جديد. احتفالية الفجر، يكون الحضور فيها كبيرًا، مئات الناس تحضر، بسبب العلاقات العائلية وما يشبهها من علاقات نسب ورحم، فكل مَن يحضر يدفع “الواجب” مبلغًا من المال، وصاحب الشأن يدوّن أسماءهم ومقابله رقم المبلغ المالي المدفوع، ومثلما عليه الوضع في البلاد العربية واليابان، فإنَّ مَن يدفع مبلغًا ماليًّا يأمل أنَّ الذي دفع لهم سيبادلونه الدفع حين تكون لديه مناسبة اجتماعية مثل افتتاح مَـراي أو ما شابه.

 وتـُحَـرِّمُ عاداتهُم على المرأة وهي في دورتها الشهرية أن تجني الـمائيات مثل المحاريات والأصداف وحيوان أذن البحر وسواها. لأنَّ المرأة- والحديث هنا في الـماضي الذي سبق وصول البريطانيين- حين تدخل إلى الماء يختلط دم دورتها الشهرية بالـماء وهذا إعلان للجميع أنها في أيام الحيض، كما تثيرُ رائحةُ الدمِ الممزوج بالماء أسماك القرش وتحفزها للانقضاض على الـمكان ومَن فيه.

يرتبط الـماوري بأفراد أسرته وقبيلته ارتباطًا مثله مثل ارتباط العربي لا سيما في الأرياف والبوادي بالأسرة والعشيرة والقبيلة، كما تتوقع الأسرة والقبيلة من الأفراد أن يتواصلوا معها ويؤدوا واجباتهم تجاهها، وهذا النظام القبلي في كل مكان بما في ذلك جزر جنوب المحيط الهادئ.

قديمًا، كان الـماوريون في قراهم، يفرقون بين مكان الطعام ومكان المنام، وحين اصطدموا بالأوروبيين، ووجدوا بعضهم يجلس على طاولة الطعام، امتعضوا، وقد أخبرتني زوجتي، أنها أُخبرت في طفولتها أنَّ الجلوس على طاولة الطعام مستهجن جدًّا عند الـماوريين، وأنَّ وضع اليد على رأس شخص يعدّ إهانة، وهي تشبه ضرب رقبة شخص بكف شخص آخر وما تمثله من إهانة في الـمجتمع العراقي. المجتمع الـماوري ليس متساويًا طبقـيًّا، الكبير له مكانة أكبر من الأصغر سنًّا وهذا قريب لثقافتنا العربية والشرقية.