{الإسرائيليات} بين التدوير اللفظي والبطانات المعرفيَّة والمنهجيَّة

قضايا عربية ودولية 2024/01/22
...

 جواد علي كسار

أربعة أسماء لفتت نظري في الاتجاه المصري للكتابة عن فلسطين والصهيونيَّة واليهود، سأسبق ذكرها بملاحظتين؛ الأولى أن رصدي لها لم يأت على سبيل الاستقراء التام، فربما شهدت الساحة المصرية أسماء أخر، لم أفلح في الاطلاع على كتاباتها. والثانية؛ الكلامُ عن الاتجاه المصري لا يعني الخفض من شأن بقية الساحات والاتجاهات المعرفية، ولاسيّما الساحة الفلسطينية نفسها، وما شهدته من جهود مثابرة، وإنتاج غزير فيه الكثير من الغنى والإبداع، وأيضاً تضمن قدراً غير قليل من تغييب الآخر له، وإقصائه لبعض اتجاهات هذه المدرسة، منها على سبيل المثال كتابات منير شفيق وتنظيرات حركة "الجهاد الإسلامي"، وليس "حماس".
الأسماء الأربعة
أوّل هذه الأسماء أحمد بهاء الدين (1927 - 1996م) الذي أخرج مع آخرين، الكتابة الصحفية من كتلة الشعارات المكرّرة والعشوائيات اللفظية، والمصطلحات المعلّبة الجاهزة؛ إلى الرصانة من جهة، والبطانة الفكرية من جهة أخرى، ما جعل كتاباته ذات رؤية وموقف، تستند إلى المعرفة والتحليل، وتخرج من العنتريات والادّعاءات. بشأن فلسطين و"إسرائيل" ما زلتُ أتوق إلى قراءة كتابَيْه: "إسرائيليات" و"إسرائيليات وما بعد العدوان" رغم مرور أكثر من أربعة عقود ونصف العقد على قراءتي الأولى.
الاسم الآخر الذي أعطى للكتابات العربية عن "إسرائيل" رصانة معرفية ومنهجية، هو مؤلف الكتاب المرجعي: "من يحكم في تل أبيب" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1975م، 464 صفحة من الحجم الكبير). فمنهجية حامد ربيع (1924 - 1989م) في التنظير السياسي المركب، تفتح آفاقاً جديدة للفهم والتفكير، وتُثري مدارك الوعي بغزارة معلوماتها وأطرها معاً.
الحقيقة أنَّ هذه سمة عامة لا تقتصر على كتاب دون آخر لربيع، وقد بدت مركّزة في تحليله للدعاية الصهيونية، كما لمفهوم الصراع العربي- الإسرائيلي، لكن من منظور داخلي تفاعلي للطرفين كليهما، كما فعل ذلك في أكثر من كتاب عن الجانب العربي، وبرز هذا المنحى جلياً قوياً شاخصاً في كتاب: "من يحكم في تل أبيب" عن الجانب الإسرائيلي.
تبرز التفاعلية التبادلية واضحة عندما يذكر مقدّمة هذا الكتاب أنَّ "سرّ قوّة إسرائيل هو ضعف خصومها" (ص: 7)، من دون أن يُفقده هذا المنهج بوصلة التوازن لمعرفة أسباب القوّة والضعف معاً، ولكلّ واحد من الطرفين على السواء، بل هذه هي برأيه وظيفة المحلل السياسي، ودوره في تشريح القوى السياسية لإبراز مواضع قوّتها وضعفها؛ وهذا ما فعله. ففي تحليله لمركّب القوّة في تل أبيب لم يتوانَ قطّ عن كشف مكامن القوّة والتماسك في النظام الإسرائيلي، وبروز حالة التصلّب الإسرائيلي ولاسيّما بعد هزيمة عبد الناصر عام 1967م.

المنهاجية المعرفية
هذه المنهاجية المعرفية أخذت بيد حامد ربيع، إلى رحلة في أعماق الإطار الفكري التكويني للدولة اليهودية، وخصائص صلتها بالأيديولوجية، قبل أن يخصّص أكثر من مئة صفحة لتشريح خريطة القوى السياسية، والكشف عن بُنى صنع القرار، ثمّ وعلى أساس المعلومات الموسّعة والأطر التحليلية المعرفية، أعطى الكشف النهائي للنظام الإسرائيلي وتوزعه بين عوامل النجاح والإخفاق.
لم تقتصر علاقات القوّة والسلطة وجدليات الاجتماع والسياسة، على تحليل الداخل الإسرائيلي وحده وبنحوٍ منفصل، إذ ما ثمة برأي حامد ربيع أي ذاتية لمزايا التماسك والقوّة في "إسرائيل"، على مستوى الدولة والمجتمع أو الاجتماع والاجتماع السياسي، بل تتواشج عناصر القوّة والضعف الداخلي لـ"إسرائيل" بعنصرين مركزيين متشابكين، دولي يتمثل بأميركا والمنظومة الغربية قاطبة؛ وإقليمي يبرز عبر نظام عربي- إسلامي مركّب. وهكذا يكون الحبل السرّي لقوّة "إسرائيل" بيد واشنطن وعواصم الغرب من جهة؛ وبيد قوى النظام الإقليمي العربي- الإسلامي من جهة أخرى، ومن ثمّ تكون عواصم الإقليم العربي- الإسلامي أمام مهامّ ثلاث مركّبة وليس مهمّة بسيطة واحدة، هي الصراع العسكري، والتخطيط الدعائي المنظم، والدبلوماسية الحيوية النشطة.
لا يكاد يخلو مقال أو درس فضلاً عن البحث والكتاب عند ربيع، من ثروة معرفية في المضمون أو المنهج أو كليهما، فعند تمييزه مثلاً بين اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، يذهب تصنيفياً إلى أنَّ اليهودية دين، والصهيونية أنموذج حضاري للغرب، ويخفض "الإسرائيلية" إلى مجرّد أداة سياسية، تعمل لصالح صاحب الأنموذج الحضاري الغربي وتأتمر بأوامره؛ وأنَّ العلاقة بينهما تعاقدية تقوم على أساس أداء "إسرائيل" لوظائف بعينها تحدّدها أميركا والغرب وتنفذها "إسرائيل" وحسب؛ وهذا بعكس الصورة الشائعة التي تذهب إلى أنَّ "إسرائيل" تتحكّم بأميركا والغرب، وتفعل بهما كما تشاء!
بهذا تبدو المسافة واضحة بين بهاء الدين وحامد ربيع. فالأول دخل إلى الأعماق من الصحافة فسعى إلى رفدها بالمنهجية والبطانة المعرفية. أما الثاني فقد ولج إلى الصحافة مسلحاً بجهاز منهجي متميّز (ولا أقول أكاديمي صرف، فالأكاديمية متحقّقة عند ربيع لكنها ليست الملاك الأوحد) وبرصيد نظري ومعرفيّ كبير، ما جعل كتابات ربيع أكثر نفعاً ودواماً.

تشريح العقل الإسرائيلي
في عام 1973م أطلّ علينا "مركز الدراسات السياسية والستراتيجية" في القاهرة، بكتاب ينطوي على عنوانٍ مثير وجريء، هو: "الشخصية العربية بين المفهوم الإسرائيلي والمفهوم العربي" للباحث المصري السيد ياسين (1933 - 2017م).
حتى قبيل هزيمة عبد الناصر عام 1967م، لم يكن أحد يجرؤ على تسليط أضواءٍ موضوعية كاشفة على الشخصية الإسرائيلية وندّها العربية، تتناول الإيجابيات والسلبيات، ونقاط القوّة إلى جوار نقاط الضعف على حدّ سواء. فلغة التبجيل بصورة الذات العربية كان لها الهيمنة في نظام التفكير القومي، والخطاب المتبنّى من قِبل نظمه السياسية بشقّيها الناصري والبعثي، مقابل التبخيس بصورة العدو الإسرائيلي، والاستخفاف بعناصر قوّته.
لكنَّ هزيمة حزيران فرضت مراجعة فكرية ونظرية ومنهجية لهذا الخطاب، إلى جوار النقد السياسي لأنظمته، كان من بين آثاره إنشاء "مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية" بمؤسّسة الأهرام عام 1968م، الذي ما لبث أن تحوّل بعد عام 1970م إلى مركز للدراسات السياسية والستراتيجية. كان من بين من استقطبه المركز من الطاقات الفكرية والأكاديمية، هو عالم الاجتماع السيد ياسين.
لم يُضع سيد ياسين من وقته شيئاً بل سرعان ما اقترح إنشاء وحدة بحوث لدراسة المجتمع الإسرائيلي، ليبادر من فور الموافقة عليها وترؤسها، إلى وضع خريطة جامعة لمهمّة هذه الوحدة أخذ إعدادها من وقته ثلاثة أشهر كاملة، انتهت بتقرير تفصيلي عن السمات الرئيسة للمجتمع والشخصية الإسرائيلية، في نقاط قوّته وضعفه، مقرونة بخطة عمل، ومنهج مقارن بين الشخصيتين الإسرائيلية والعربية.
في ما يتعلق بالسيد ياسين شخصياً فقد أصدر في مضمار هذا النشاط، كتابه: "الشخصية العربية بين المفهوم الإسرائيلي والمفهوم العربي" الذي اكتسب في الطبعة العربية الأولى عنواناً أعمّ، هو: "الشخصية العربية بين صورة الذات ومفهوم الآخر" (دار التنوير، بيروت 1981م) ليكون العنوان الجديد ليس تغييراً شكلياً أو لفظياً، بل جاء أكثر اتساقاً مع المحتوى، وهو يرصد تجليات الذات العربية وصورها النمطية، ليس على مستوى الجهاز الإدراكي الإسرائيلي، ومراكز بحوثه وأجهزته ورموزه وشخصياته وحسب، بل تابع هذه التجليات والصور في المدركات الغربية عامة.
ما لبث أن ألحق السيد ياسين حصيلته المعرفية بكتاب آخر موصول بالحقل البحثي نفسه، حمل عنوان: "تشريح العقل الإسرائيلي" (الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2000م، 284 صفحة من الحجم الكبير).

الطابع الدفاعي
يتجه الكتابان كلاهما إلى تكوين معرفة علمية رصينة بالشخصية الإسرائيلية والمجتمع الإسرائيلي نفسه، من خلال أسلوب التمسّك بمنهجيات البحث الاجتماعي، وأدواته الإحصائية والبيانية والرقمية. واجهت الدراسة في الكتابين معاً (وما يشابههما على النسق نفسه، مثل كتابات حامد ربيع وعبد الوهاب المسيري من بعده) إشكالية المعايشة وعدم زيارة "إسرائيل" ومعرفتها من الداخل. وقد حاول سيد ياسين ردم هذه الفجوة وملأها بالاعتماد الموسّع على منهج "التحليل الثانوي" الذي يعني باختصار، أخذ معلومات الدراسة وعيّناتها وبياناتها الرقمية والإحصائية من الداخل الإسرائيلي نفسه (مراكز وبحوث وصحف ودوريات) ليطلق الفاعل المعرفي العربي عقله في إعادة استعمالها وتحليلها وتفسيرها، وهو يخرج بقراءات جديدة ونتائج غير تلك التي وصل إليها الفاعل المعرفي الإسرائيلي (تشريح العقل الإسرائيلي، ص 234).
اتسم الكتاب الأول للسيد ياسين (الشخصية العربية) بالطابع الدفاعي المحكوم بالتبعات الثقيلة لهزيمة عبد الناصر، وما تركته من آثار نفسية وثقافية وسلوكية مدمّرة في الجانب العربي، قابلها ما يعاكسها في الجانب الإسرائيلي. على سبيل المثال رسم التصوّر الإسرائيلي في الدراسات الاجتماعية؛ مجموعة خصائص سلبية للشخصية العربية، أبرزها العدوانية، الانفعالية، الشعور الحادّ بالإحباط، والفردية (الشخصية العربية، الفصل الرابع: المفهوم الإسرائيلي للشخصية العربية، ص 111 فما بعد).

الشخصية الفهلوية
في النسق الدفاعي برز مفهوم "الشخصية الفهلوية" بصفته واحداً من أبرز الأنساق التفسيرية للهزيمة؛ برز كنقطة التقاء لناقدي الإنسان العربي (المسكين!) بين نقاده من الداخل والخارج؛ من قبل الأكاديمية الإسرائيلية والنخبة العربية معاً. فإذا عدنا إلى كتاب صادق جلال العظم (1934 - 2016م) "النقد الذاتي بعد الهزيمة" بصفته واحداً من أبرز المدوّنات النقدية التي مارسها المفكرون العرب لهزيمة حزيران، لوجدنا أنَّ هذه المدوّنة تقوم في أبرز دعامة لها، على نقد الشخصية العربية، وعدّها جذراً عميقاً للهزيمة، باستحضار دراسة موسّعة قام بها حامد عمار (1921 - 2014م) لتحليل النمط الاجتماعي وتأثيره في صياغة مركبات الشخصية، وهو يصطلح "الفهلوة" أو "الفهلوية" وصفاً للشخصية المصرية، قبل أن يجيء العظم ليقوم بنقل التوصيف نفسه من حيّزه الاجتماعي المصري، وتعميمه على الحيّز العربي
 برمّته.
قُدّمت لنا "الشخصية الفهلوية" كاستعمال وصفي سلبي للشخصية العربية، من خلال سماتٍ ست، هي القدرة على التكيّف (تعبير مهذّب عن الازدواج والنفاق) والمبالغة في تأكيد الذات وتضخيمها، والإزاحة والإسقاط (بمعنى التبرير وعدم تحمّل المسؤولية لاسيّما في الأزمات وأوقات الحرج) والجنوح إلى العمل الفردي ومجانبة النسق الجماعي، وغلبة الرغبات والأماني في بلوغ الأهداف بدلاً من الوسائل الطبيعية، وأخيراً طابع النكتة وغلبته على الشخصية المصرية، وهو أمر مشهود لكلّ من يحتك بالشخصية المصرية (الشخصية العربية، ص 166 فما بعد).
في كتاب "تشريح العقل الإسرائيلي" تحوّل السيد ياسين إلى الطابع الهجومي، فظهرت المبادأة بإخضاع الشخصية الإسرائيلية إلى التفكيك والتحليل، وتحويلها إلى موضوع للدراسة والتفسير وإعادة القراءة، ساعد في ذلك أنَّ أغلب مادّة الكتاب جاءت بعد انتصار تشرين الأول 1973م، وعبور قناة السويس وضرب خطّ بارليف وتحصينات الجولان.

بين أنموذجين
برزت واحدة من السمات الهجومية في كتاب ياسين الثاني، باقتحام العقل الإسرائيلي نفسه تعريفاً وتفكيكاً وتشريحاً، ولم يعد الأمر يقتصر على الشخصية أو المجتمع الإسرائيلي وحدهما. ففي واحدة من جولات الهجوم في أغوار العقل الإسرائيلي، كشف ياسين عن طريق تحليل الأيديولوجية الصهيونية وصفتها العنصرية، كيف أنَّ المجتمع الإسرائيلي انطلق منذ تأسيسه على ممارسة أربعة اقتحامات مثّلت مركّباً من حلقاتٍ أربع متعاضدة، هي: "اقتحام الأرض، واقتحام العمل واحتكاره دون الفلسطينيين عبر الاستعمار الاستيطاني الإحلالي، ثمّ اقتحام الإنتاج، أي إبقاؤه داخل الدائرة اليهودية ومنع التعامل مع العرب، وأخيراً اقتحام الحراسة، وهو يعني ببساطة حماية حلقات المركّب وتحصينها من نفوذ الفلسطينيين"، (تشريح العقل الإسرائيلي، ص 26 فما بعد).
على مدار فصول أخرى من الكتاب قدّم تحليلاً للشخصية الإسرائيلية بدءاً من جذور التكوين الموضوعي والنفسي، إلى اضطرابات الهوية وعدم الانسجام، كاشفاً عن "الثقافات" و"الهويات" المركبة للمجتمع الإسرائيلي، ماراً بخرافة المجتمع اللاطبقي وحقيقة الصراع الاجتماعي داخل المجتمع، وأنَّ حاله حال أي مجتمع آخر وهو يعاني تحديداً، من صراعات ثلاثة رئيسة، هي الصراع الطبقي والسلالي، والصراع بين الأجيال، والاغتراب والتفكّك الاجتماعي، خاصة على مستوى يهود السفارد أو السفارديم (يهود المشرق) ويهود السابرا المولودين داخل "إسرائيل" نفسها.

أنموذج ربيع
لقد قاد المركّب الاجتماعي الهجين الطارئ واللاتأريخي، إلى أن تتسلّح "إسرائيل" بعناصر خمسة لإعادة صياغة المجتمع الداخلي، هي باختصار: تأكيد استمرارية الشعب الإسرائيلي وربطه باستمرارية اليهودية عبر التأريخ (بحثاً عن العراقة المفقودة وتكويناً للتأريخية) والتركيز على عنصر الظلامة والاضطهاد، وإثارة الخوف الدائم من احتمال تكرار المذابح (هولوكوست وغيرها) والتمسّك دائماً بمبدأ مهاجمة معاداة السامية، مع أنَّ العرب مثلاً هم من الساميين أيضاً (المصدر، ص 48).

تنظيف الشخصية
في كتاب قديم نسبياً يعود إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، قدّم حامد ربيع تحليلاً لأزمة العلوم الاجتماعية في العالم العربي، تضمّن ملاحظات مقارنة ثمينة عن صفات الشخصية اليهودية تأريخياً، ودور دولة "إسرائيل" في "تنظيف" هذه الشخصية من التيه والأسطرة وبُنية المكوّنات اللاشعورية.
أبرز الصفات التي ذكرها حامد ربيع، هي أنَّ اليهودي تأريخياً يتحاشى العواصف والأزمات السياسية، وأنَّ شخصيته في تصوّر الآخر ولاسيّما الغربي أنها تجلب النحس والدمار، ويتّصف بالازدواج فهو مخيف وقنوع، شكاك ومتذمّر ومتربّص، يمتاز في الصفة الرابعة بالإباحية المطلقة، تجري فيه عبادة المال وهو يسعى وراء المنفعة المادية، عديم الولاء حتى للمجتمعات التي عاش فيها، عاش انعزالياً رافضاً للاندماج (تُلاحظ هذه الخصائص السبع بتفاصيلها: مقدّمة في العلوم السلوكية، دراسة الطابع القومي اليهودي، ص 182 فما بعد).
في حدود متابعتي، لم أقرأ في ما سبق من استعمل مصطلح "تنظيف" الشخصية، أو من أشار إلى استعماله من قبل ربيع، وهو إذن من مبتكراته. يذهب ربيع إلى أنَّ الدولة الإسرائيلية سعت منذ أول وجودها، إلى القيام بعملية تنظيف كاملة ومستمرّة للطابع القومي اليهودي والشخصية اليهودية، ارتكزت على اصطناع مداخل فكرية ثلاثة، هي باختصار: وجود حقيقة إنسانية مستترة خلف هذه الشخصية، وأنَّ لوجود اليهود فضلاً على الحضارة الغربية؛ وأخيراً التنبيه الدائم إلى النبوغ اليهودي (المصدر السابق، ص 184).

تكامل الأنساق
الاسم الرابع والأخير هو عبد الوهاب المسيري، إذ مثّل العمل الذي قدّمه عن اليهود واليهودية والصهيونية و"إسرائيل" أو الإسرائيليات بشكلٍ عام؛ مثّل نسق الأنساق أو نموذج النماذج، الذي ساد في كتبه وبحوثه ومقالاته، وبلغ الذروة في موسوعته (الثمانية) عن اليهود واليهودية والصهيونية، من حيث كثافة الرؤية الفكرية وصلابتها، وغزارة البطانة المعرفية، واستثنائية التحليل، واستعمال حاذق لأدوات منهجية (مفاهيم، مقولات، مصطلحات، أطر) هي وإن بدت قليلة، لكن قيمتها تضاعفت بمهارته المشهودة على تطبيقها واستعمالها، وتحويلها إلى مقدّمات للنتائج التي استخلصها.