ما زالت تشغلُ المحلَّلين والمؤرَّخين.. وجوه نابليون المتعددة

ثقافة 2024/01/24
...

ترجمة واعداد: مي إسماعيل

تزامناً مع عرض فيلم “نابليون” للمخرج “ريدلي سكوت”؛ ما زال الباحثون التاريخيون يحللون حياة الامبراطور الفرنسي؛ محاولين استكشاف وفهم الجوانب المتنوعة والمتناقضة لشخصيته ومسيرته المهنية.
يقترح كاتب المقال أنه قبل البدء بالتفكير في إرث نابليون؛ ينبغي أن نستكشف جانباً رئيسياً من قصته: إلى أي حد كان قائداً عسكرياً عظيماً، وما هي أعظم نجاحاته؟ يرى “ديفيد اندريس” بروفسور التاريخ الحديث بجامعة بورتسموث” أن نابليون كان واحداً من أعظم القادة العسكريين في كل العصور، وكان أيضاً يتمتع بشخصية جذابة للغاية.. ولكن يجب أن نضع في الاعتبار كلما تحدثنا عنه أنه كان شخصاً فظيعاً من الناحية السياسية. كان نابليون ناجحاً ستراتيجياً في تنفيذ الخطط بالقوة العسكرية؛ لكن المشكلة أن ذلك لم يكن دائماً المسار الصحيح. يمكن القول إن قصة حياة نابليون (من أواسط تسعينيات القرن الثامن عشر فصاعداً) هي أساساً قصة موازنة بين جاذبيته الشخصية ودوافعه وطموحه وصفاته القيادية المتميزة، وبين ما قام به فعلياً في المجال السياسي، والأنظمة التي أنشأها، وما قيل عن ما كان يفكر به تجاه الآخرين. وتتفق معه “لورا أوبراين” الاستاذة المساعدة بجامعة نورثمبريا؛ بأن أحد أسباب استمراره بإثارة هذا الاهتمام هو الميل للنظر إليه بمنظور ثنائي: فهو أما أسوأ شخص عاش في الدنيا أو عبقري مثالي جرى استغلاله بقسوة. قد يكون هذا تحليل المؤرخ الكلاسيكي؛ لكن علينا التفكير بسمعة نابليون بإسلوبٍ أكثر تعقيداً وتعددية.. علينا الاعتراف بما حققه نابليون من إنجازات؛ وهي استثنائية؛ والطريقة التي كان قادراً بها على الاستحواذ على المخيلة إلى حد أنه ما زال يُعلمنا كيف نفهم القيادة.
• كيف شكلت حياة نابليون المبكرة نظرته للعالم وكيف رأى نفسه؟
تقول “أوبراين”: لعل من أهم الأحداث التي  شكلت حياته مبكراً كان إرساله إلى الأكاديمية العسكرية عام 1779، وهو في التاسعة من عمره. ثم قضى سنواته الخمس التالية في بيئة متقشفة؛ مما علّمه كيفية البقاء في المواقف الصعبة. ولعله تعرض للتنمر بقسوة؛ إذ سخر الآخرون من لهجته وحقيقة أنه لم يتحدث الفرنسية بوضوح. هنا بدأ إهتمامه بفكرة استقلال كورسيكا (موطنه الأصلي. المترجمة) ، وحقيقة أنه كورسيكي قبل كل شيء. رغم أن نابليون مر هنا بأوقات عصيبة ولم يكن متميزاً أكاديمياً؛ لكنه كان على ما يرام. لم يكن العبقري الوحيد هناك؛ ولعله لم يكن الطفل المنعزل الذي يخط مساراً وحيداً نحو المستقبل كما أراد هو وبعض كتاب سيرته الذاتية أن يُنظر إليه. أما “أندريس” فيرى أن نظر نابليون إلى نفسه باعتباره العبقري المتوحد كان خلال سنوات 1770 و1780؛ وهي الحقبة التي بدأت فيها عصور التنوير تتحول إلى عصر الرومانسية، وبدأ شباب تلك الحقبة يعتنقون فكرة أنهم متميزون بشخصيات مستقلة. وهذا يشمل فكرة أنه إذا كانت ظروفك تجعلك تعيساً فعليك التغلب عليها والمضي قدماً. وقد سقطت الثورة الفرنسية نوعاً ما في أحضان ذلك الجيل؛ كفرصة لإظهار تفوقهم في جميع المجالات.  
تمضي “أوبراين” قائلة: من المهم أن لا يكون التركيز على جانب انتشار جيوش نابليون في نجاحاته العسكرية؛ ولكن في كيفية نقل أخبار تلك الانتصارات إلى فرنسا وباقي أجزاء العالم. كان نابليون واعياً بوجود جمهور يشاهده في كافة الأوقات، وبأهمية وجوده أمام ذلك الجمهور. هذا النشر لصورة عن نفسه، عن نجاحاته العسكرية وقيادته السياسية؛ كان الهدف منه بوضوح نيل إهتمام عام أوسع؛ وهي فكرة عصرية جداً. خلق نابليون بشكل أساسي شكلاً من أشكال القيادة الحديثة؛ وهو ما يمكن ملاحظته منذ وقت مبكر في مهنته. وكانت صحيفة “ساعي الجيش الإيطالي- Le Courrier de l’Armée d’Italie” مخصصة أساساً للكتابة عن مدى نجاح نابليون في الجيش وانتصاراته العسكرية. ورغم أنها كانت مخصصة نظرياً للجنود؛ لكنها كانت فعلياً موجهة للفرنسيين في الوطن؛ الذي بدؤوا يضعون صور نابليون على جدرانهم ويشترون مطبوعات له في المعركة.  فهل كان أسلوب “إدارة الصورة” ذاك محورياً لكيفية رؤية نابليون؟
الاسطورة
يرى “أندريس” أن على الباحث النظر دائماً إلى هذا الجانب؛ إذ لم يتكلف نابليون مشقة الوقوف أمام الرسام الذي رسم لوحة له وهو يجتاز جبال الألب على جواد يقف على قائمتيه الخلفيتين؛ مكتفياً بالقول: “فقط انجزوا لي لوحة أبدو فيها عظيماً”.. وهذا كان جزءاً من عملٍ دعائيٍ بحد ذاته، وجزءاً من حركة لتقديم نفسه بطلاً للأشخاص اليائسين لوجود مثل تلك الشخصية بعد عقدٍ من الفوضى؛ ثم الاستيلاء على السلطة بإدعاء أن الشعب في حاجة إليه بدلاً من سؤالهم فعلياً عما إذا كانوا يريدون منه القيام بذلك. خلال انقلاب عام 1799، أراد نابليون تثبيت حقيقة استيلائه على السلطة (رغم أنه استولى عليها بوحشية)؛ لذلك قرر إجراء استفتاء شعبي، ثم قام بتزوير النتائج. وهذا نمط آخر يمكن تتبعه في قصة نابليون: التشدق بالديمقراطية؛ ولكنه في الواقع مجرد استخدام السلطة لفعل أي شيء يريده.
تمضي “أوبراين” انه مع استغلال فكرة الديمقراطية للسيطرة؛ لكنها أيضاً فكرة أن نابليون يستطيع التواصل مع الناس لدرجة أنهم لا يحتاجون إلى “وسيط” بينهم تقريباً. وكانت فكرة نابليون أنه يستطيع التواصل مع الشعب لأنه يعرف ما يريدون؛ وما يريدونه هو “نابليون”؛ لأنه كان اسطورة! عرف نابليون تاريخه؛ كونه ابناً لنظام التنوير الذي يركز على الكلاسيكيات؛ فوظّف إشارات إلى قادة الماضي في تلك الصورة.. على صخور الأرضية حُفِرَت أسماء “هانيبال” و”شارلمان”؛ وبذا كان نابليون صريحاً للغاية في وضع نفسه ضمن هذه السلسلة المتصلة، وذاك الإرث من القيادة الذي وحد الجيش والسياسة.
“عمل دعائي..”
ولكن هل أخفى هذا التقديم الاسطوري الذي رسمه نابليون لنفسه جوانب أكثر قتامة وتعقيداً؛ خاصة خلال حروبه على سبيل المثال؟ يرى أندريس أن تيجان أوروبا قاتلت بعضها كثيراً؛ لكنها كانت تفهم أيضاً إلى حدٍ ما أن ذلك كان نظاماً فيه حدود للحرب، وأن هدف كل حرب كان الوصول إلى نوع من التسوية الدبلوماسية العادلة؛ وهي فكرة تعود لمئات السنين. لكن ما فعله نابليون (وبقوة) كان تكسير ذلك النظام؛ أما باستخدام القوة العتيدة أو بكونه متنصلاً من العهود بلا خجل. فبالنسبة له كانت الاتفاقيات أشياء تستخدم لجعل الآخرين ينفذون بعض الأمور؛ وإذا لم تعجبك النتائج يمكنك إعلان الحرب عليهم ثانية. وبالنظر إلى العلاقة بين الحرب والسياسة في العقد التالي لتتويج نابليون عام 1804، يبدو واضحاً أنه لم يتقبل أبداً أن يحدّ الآخرون ما يرغب بتنفيذه؛ وهذا هو جانبه المظلم (من حيث السياسة الدولية). وترى أوبراين أن من قرارات نابليون الاستبدادية- إرسال الجيش الفرنسي مجدداً إلى منطقة الكاريبي وإعادة فرض نظام العبودية في بعض المستعمرات الفرنسية؛ رغم قوله لاحقاً إنه لم يكن ليفعل ذلك لولا السعي لاستخدام القوة العسكرية والسياسية للعب ضد بريطانيا وإسبانيا في ممتلكاتهم الإمبراطورية. ولعل هذا مجال لفهم نابليون بإسلوب لا يمثل مجرد إدانة صريحة وشاملة أو بطولية؛ بل بالنظر إليه وإلى إرثه بطريقة أكثر شمولية؛ وأبعد من تقييم الجيد أو السيئ للماضي.
قانون نابليون
بعد الثورة الفرنسية حاولت أهم العقول القانونية الفرنسية التعامل مع مشكلة تغيير قوانين الحقبة الملكية؛ لأن تلك القوانين باتت مترسخة تاريخياً وكأنها أزلية. قضى هؤلاء نحو عقدٍ من الزمن يعملون على أنظمة قانونية جديدة، وجرى في نهاية المطاف استخلاص “قانون نابليون” من ذلك العمل. (قانون نابليون؛ بالفرنسية: Code Napoléon،‏ هو مجموعة القوانين التي تدير القانون المدني الفرنسي تمييزاً له عن القانون الجنائي. وهو ينسب إلى الإمبراطور نابليون بونابرت. المترجمة، عن موسوعة ويكبيديا). تتباين الآراء حول مدى مسؤولية نابليون شخصياً عن تشكيل ذلك القانون.. إذ دارت المناقشات أمامه، وتناقلت الأقوال عن ما أراد هو أن يشمل. ولكن لعل أحد الجوانب الجيدة للملكية تتمثل بقدرة نابليون (كرئيس واحد وإرادة سلطوية منفردة) أن يدفع قدماً عمل الطبقة السياسية للدولة. أنجز نابليون المهمة؛ بما فيها إصدار هذه القوانين تزامناً مع تهدئة الأمة، التي شهدت انهياراً حقيقياً للقانون والنظام أواخر تسعينيات القرن الثامن عشر. وكانت تلك إحدى الطرق التي شكّل بها نابليون تجسيداً مادياً لما كانت الثورة تحاول القيام به طوال عقد من الزمن. وتستطرد أوبراين قائلة: “كتب المؤرخ “جيوفري أليس” إنه رغم ميلنا لمقارنة نابليون بشارلمان أو قيصر؛ لكنه أقرب فعلياً للمقارنة مع الإمبراطور الروماني الشرقي “جستنيان”؛ من حيث أن إرثه الكبير كان إعادة التنظيم المدني وتنفيذ هيكل ثوري جديد. والعديد من عناصر تلك القوانين ما زالت صامدة التأثير بشكل ما في الأنظمة القانونية لفرنسا ودول أوروبية أخرى”.
رائع ورهيب..
ترى أوبراين أن “سُمعة” نابليون كانت في أوجها تزامناً مع نجاحاته العسكرية، وظهور الجيش الكبير (القوة القتالية الرئيسية لنابليون)، والنصر في معركة أوسترليتز عام 1805. وهي فترة كان فيها ديناميكياً للغاية؛ إذ صعد إلى السلطة، ودفع الأمور قدماً؛ رغم بعض الإخفاقات الصغيرة.
لم تكن حياة نابليون مستقيمة أو سهلة؛ وعلى الناس اختيار “نسخة نابليون” التي يريدون تكريمها، والنسخة التي ربما لا يريدون التفكير فيها كثيراً.. هذه ليست إجابة مباشرة للغاية، لكنها (كما تعتقد أوبراين)؛ تعكس مدى تعقيد قصته..
كان نابليون رائعاً ورهيباً معاً؛ ولذا فهو مزعج للغاية ومثير للاهتمام، لأنه كان قادراً على استخدام “فتنته الساحرة.. الكاريزما” التي تمتع بها طوال حياته. لم يكن قصيراً كما تمثله الدعاية البريطانية عادة، لكنه كان نحيلاً، وبالتأكيد متواضع المنظر كرجل شاب. ومع ذلك فإن الحقيقة أنه كان لا يزال قادراً على  إقناع الناس بما يقول.. فهل ستبقى شهرة نابليون حافلة بعد نحو خمسين عاماً من اليوم؟ يقول أندريس: “رأيتُ تزاحم الناس عند قبر نابليون بمبنى “الإنفاليد” في باريس يوم عيد ميلاده.. وما زال يمثل اليوم شخصاً يمكنه جذب الناس إلى مداره ليروا تابوته الفخم. كان يؤمن أن باستطاعة الإنسان أن يصنع قدره؛ وهذا ما زال يستقطب الاهتمام، ولا أحسب حتى المؤرخين قادرين على تفسيره تماماً. ولا شك أنه سيبقى محط الاهتمام بعد خمسين سنة اخرى”.  

مات ايلتون- مجلة “بي بي سي” البريطانية للتاريخ، تشرين الثاني (نوفمبر) 2023