في ضرورات التجنيس الأدبي

ثقافة 2024/01/24
...

د. نادية هناوي

إن انشغال الإنسان بالقيم الفنية والفلسفية هو مرحلة تالية لانشغاله بتوفير ما تستلزمه حياته من قيم مادية أي أن إنتاج وسائل العيش المباشرة هي التي ترشده إلى إنتاج مفاهيم وآراء لها صلة برقي حياته وبها يستبدل القديم بالحديث. ومن هنا تطورت المجتمعات وتحولت من كونها مجموعات بشرية لا كيان لها إلى تكوينات حضارية متكاملة ومنسجمة. وهو ما يمكن دراسة قوانينه وتطوره. والفن واحد من تلك القوانين التي بها نفهم المراحل التي مر بها وعي الإنسان بحاله وما حوله. وليست قوانين الفن هي قوانين الطبيعة. لأن الأخيرة تلقائية وربانية بينما الأولى مصطنعة وبشرية، والأدب واحد من الفنون التي بدراسة قوانينها نفهم وضع الحياة الاجتماعية ببعديها التاريخي والمستقبلي. والاستمرار نفسه واحد من القوانين التي بموجبها تعمل مفاهيم الأدب ومقولاته ومن خلالها تتضح صورة التراكم في الخبرات عبر مراحل التاريخ ومنجزات التطور المثمر التي لها آثارها في العلوم وظواهر المجتمع المتشابكة. وتعد مقولة الأجناس الأدبية الطابع الأصيل للحياة الأدبية التي هي جزء من تشكل المجتمع وفيها تتجلى شتى النظريات والفرضيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي تحاول أن تفسر هذا التشكل المجتمعي.  
من هنا تصبح الأجناس الأدبية ضرورة من ضرورات فهم الترابط الجدلي بين الوجود التاريخي والظواهر الاجتماعية وما ينجم بصورة طبيعية عن ذاك الترابط من إنتاج أشكال أدبية وأنواع تقرر أوجه الإبداع وأنظمته التي هي الأخرى تحدث بصورة طبيعية لكنها ضرورية.
وتعني الضرورة أن إنتاج شكل أدبي ما، لا يأتي اعتباطا إنما هو يتولد عن حاجة وليس إقصاء لموجود قبله ليكون هو موجودا بدله مما يذهب إليه منظرو التناص ما بعد البنيويين ودعاة انفتاح النص وإلغاء الأجناس الأدبية. ومنهم تودوروف الذي تساءل من أين تأتي الأجناس الأدبية ؟ وأجاب أنها تأتي ببساطة من أجناس أخرى عن طريق القلب أو الزخرفة أو التوليف ومن ثم لا وجود لما قبل جنس أدبي ما. ولكن يوجد ما بعد ميلاد الجنس. وأساس هذا الطرح مبني على فكرة مساواة النص بالجنس وهو أمر غير ممكن عمليا لان النص فعل كتابي ينجز بشكل فردي بينما الجنس قالب حدي لا ينجز إلا بعد مخاض تاريخي هو عبارة عن عملية مداومة باستمرارية إبداعية. وإذا كان النص ينجز كبناء، فان حصيلة ما يتم بناؤه أو مجموعة الأبنية المتحصلة ستفرض بالضرورة أن يتكون منها قالب وبالمداومة عليه تتأكد حديته وقابليته على الضم والاحتواء للأساليب والأشكال والتقانات وعندها يكون القالب جنسا أدبيا هو حصيلة مخاض من التجريب على مستوى الكتابة وسلسلة عمليات متعددة من الاختبار على مستوى القراءة. فكيف بعد ذلك ننظر للجنس نظرة تناصية ونعامله معاملة النص؟!!.
وصحيح أن بإمكان النصوص أن تتداخل وتتعالق فهي أبنية قابلة لان تزداد أو تنقص لكن الجنس لن يقبل التداخل وإذا حصل ذلك فانه يحكم على قالبه بالتضعضع والنفاذ لجنس آخر سيستوعبه ويعبر عليه من ثم. من هنا يكون التناص ضرورة بالنسبة إلى النص، كأن يوسعه ويعمقه أو يضيف إليه ويجمله بينما يكون العبور ضرورة من ضرورات تجنيس قصيدة النثر كأمر محتم، نظرا لما تملكه من مقومات العبور على الأشكال والأنواع والأجناس الشعرية الأخرى. وليس في الضرورة استثناء، لان الضرورة ببساطة ليست قاعدة لها منشئ محدد وهندسية ما والضرورة أيضا ليست خطابا متتاليا من خطابات أو توليفة ممكنة من عبارات وتلفظات ولا هي أفعال ملموسة ومقولات استدلالية ومنظورات متقاربة أو مختلفة، بل هي هذه كلها وغيرها كونها تجمع الملاحظة التجريبية بالمنظور التجريدي وتربط بين التطور الاجتماعي والانجاز الأدبي وتؤسس فعلا أو قولا ليكون قاعدة عليها تنبني خصائص ذات مكونات معينة.
وإذا كانت عملية التناص تنفي أن يكون هناك أصل أول، فان الضرورة تحتم وجود جنس اختمرت أبعاده واختبرت قدراته فغدا واجبا الاعتراف به وإتباع تقاليده. وهو أمر عرفته آداب الحضارات القديمة الغابرة وحدد ارسطو قوالبها وسماها المنظرون بـ(الأجناس الكبرى) وهي: الشعر الغنائي والشعر الملحمي والشعر الدرامي. ولقد عرفت حضارة وادي الرافدين الجنسين الأولين وعرفت حضارة الإغريق الأجناس الثلاثة جميعا. ولا يمكن للحضارات اللاحقة والمتعاقبة أن تلغي أمر هذه القوالب أو تتجاهلها حتى وإن اندثر بعضها وتضعضع أو تلاشى. ولا يخفى ما للمنظرين الغربيين من مبتغيات تقف وراء نقدهم للتناص وقولهم باللاتجنيس، وهي ذات المبتغيات التي يسعى الفكر الاستشراقي إلى ترسيخها من أجل إعطاء صورة كولونيالية فيها الغرب هو المهيمن والفاعل، وانه امتداد لعصور الإغريق والرومان في مقابل إلغاء ما للحضارات الشرقية القديمة من انجازات، علما أن بلاد اليونان والرومان تعد جزءا من العالم القديم الذي كان بالمجموع شرقيا.
إذن فالأجناس تأسيس أو هي مؤسسة تعمل بأفق إنتاجي فيه الصانع للقالب هو صاحب الملكية الفكرية فيه ومبتدع النموذج. وقولنا إن الأجناس مؤسسة يعني ان هناك مجتمعا اختار القوالب وسن القواعد وبأفق تاريخي وايديولوجي. فالتعاويذ والترانيم والحكايات الخرافية والعجائبية والادعية والأمثال والأحاجي والألغاز والطرف وغيرها هي أشكال عرفها الإنسان منذ القدم لكنها لم تستطع أن تشكل من نفسها مؤسسة فتكون أجناسا لأن المجتمع في وجوده التاريخي لم يتواضع عليها فيشرع لها قالبا شفاهيا أو كتابيا وهو أمر لا يقتصر على شعب دون آخر أو لغة دون غيرها، بل هو عام لأن الهوية الأدبية للأجناس هي كلية وما من استثناءات أو خصوصيات فيها والتطورات التي تحصل في نوع أو شكل ما، تخضع لمخاضات تتعدى الأعراق والجغرافيات فتنغمر في صوغ التحولات الكامنة وراء بروز قالبها فيكون ميلاد الجنس إيذانا بعموميته. وهذه واحدة من الفوارق المهمة بين بناء الأجناس وبناء النصوص، فالنص ينبني بخصوصية لكن الجنس ينبني كمؤسسة بصيرورة عالمية تقطع كل طريق أمام أي تحول في طبيعة القالب الذي ما أن يتشكل حتى يتأكد ثبوت الجنس الأدبي، وأنه مختلف سابقا ولاحقا. خذ مثلا الرواية التي حققت ناجزية تجنيسها بحدود قالبها ثم بمواضعات هذا القالب في العبور الأجناسي أيضا.
وإذا كان عسيرا في بناء النصوص الاستدلال على أصل أول بسبب صعوبة معرفة من بَنى أو دشن الأساس القولي الأول فضلا عن حقيقة أن المبدع حر في ما يبني ويصوغ، فإن الأمر ليس كذلك مع الأجناس. ليس لقلة عددها، بل لأن كل جنس مؤسس على قاعدة هي رأس الهرم لعقد تخييلي، يتعاقب على الإيفاء به والالتزام ببنوده المبدعون والمتلقون معا بشكل غير مقصود ولا علني. فليست الرواية مثلا( تعاقب عناصر وصفية سردية أي التعاقب بين وصف حالات مثبتة وأفعال تجري في الزمن) لأن هذا الوصف يجرد الجنس من صورته كمؤسسة فيغدو مثل أي نص يتكون من عناصر. ولو كان هذا صحيحا، لصار كل شكل جنسا، ولعد الشكل شكلا من دون أية عناصر تؤلفه.