تفاقم ظاهرة التغير المناخي وأولويات العراق في الاستدامة البيئية (2-2)

قضايا عربية ودولية 2024/01/25
...

• أ.د جيهان بابان

  

البعد العراقي لمخرجات المؤتمر 

يمكن الإحاطة بمخرجات "كوب 28" وسبل التعامل والاستفادة منها عراقياً وتطويعها- لأنها غير ملزمة قانونياً- باتجاه تعميق مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة من خلال سبعة محاور رئيسة، وقد تطرقنا إلى (4) محاور في الحلقة السابقة: 

خامساً: وفر المؤتمر فرصة لاستعراض ما هو جديد في مجالات العلوم والهندسة الخضراء في الاستثمار المستدام للموارد الطبيعية كالطاقة الشمسية والرياح وحرارة الأرض الجوفية بطرق صديقة للبيئة، وأيضاً في تقليل الاستهلاك الطاقوي عبر استخدام شبكات الكهرباء الذكية وتخفيض الكلفة واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. 

ومن الجدير بالذكر، أنَّ التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي والثورة التي يمكن أن تطلقها في العديد من المجالات المتعلقة بتخفيض الانبعاثات قد ألقت بظلالها طيلة المؤتمر وشكلت تحدياً علمياً ومعرفياً وتطبيقياً بحاجة للمواكبة والمتابعة. ولكن في الوقت نفسه تمثل الحواسيب الضخمة التي يحتاجها تحدياً بيئياً بحاجة للدراسة بسبب استهلاكها للطاقة وحاجتها لكميات كبيرة من المياه العذبة لخفض درجة حرارة التشغيل خاصة أنَّ مراكزها الضخمة التي وضعت في عواصم في آسيا وأفريقيا تعاني من شح المياه. 


الذكاء الاصطناعي

ويقدم الذكاء الاصطناعي حالياً عدداً من التقنيات المكرسة لحماية البيئة من خلال القدرة الكبيرة على تحليل كمية ضخمة من البيانات المتعلقة بصور الأقمار الاصطناعية وأنماط الطقس، بينما تتوفر أيضاً تطبيقات بشأن استشعار جودة الهواء وتوقع الفيضانات ومكافحة حرائق الغابات والتنبؤ بمستويات الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي والتغيرات في كتلة الأنهار الجليدية وصناعة روبوتات قادرة على التعامل مع النفايات واستعادة المواد القابلة للتدوير أو في قدرات تكنولوجية لخزن الطاقة وتوليدها.

عراقياً؛ هناك تخصص يتبلور تدريجياً وهو في متابعة وتقييم التكنولوجيا الممكن استخدامها عراقياً لإحداث تغير نوعي عبر الاستفادة القصوى من القدرات البشرية العلمية العراقية وإمكانات التمويل والاستثمار بما يحدث تغيراً نوعياً في مشاريع التخفيف والتكيف وجدواها البيئية والاقتصادية. 


اتفاقيات تاريخية

سادساً: شهد المؤتمر اتفاقات تاريخية لخفض انبعاثات غازات الكاربون والميثان وفي استخدام تقنيات الهيدروجين الأخضر وقعت عليه 197 دولة وشركات الغاز والنفط والألمنيوم والسمنت والطيران والنقل منها اتفاق لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 43 % عام 2030 مقارنة بعام 2019؛ مع تعهد من تحالف منتجي الطاقة المتجددة بزيادة القدرة الإنتاجية بثلاثة أضعاف بحلول عام 2030. 

ومن المخرجات المهمة؛ الاهتمام الذي حظيت به اقتصاديات الكاربون حيث وقعت 100 دولة على اتفاق مرتبط بالاقتصاد الكاربوني. ويأتي هذا الاهتمام بتقنيات التقاط وخزن الكاربون بسبب ندرته وارتفاع أسعاره لأهميته في صناعات عديدة، وأيضاً بسبب زيادة تركيزه في الغلاف الجوي الذي يمكن التقاطه أو من النشاطات الصناعية ومحطات الطاقة ومن ثم خزنه في تكوينات جيولوجية عميقة؛ وإن كانت غالية الكلفة وذات تأثيرات بيئية سلبية والتي أدت إلى إيقاف بعضها على الرغم من توفر الدعم الحكومي. 

وهناك أيضاً مقاربة أخرى في زيادة الخزن الطبيعي القليل الكلفة عبر التوسع في التشجير وزراعة المحاصيل التي تلتقط الكاربون مثل شجرة المنغروف والطحالب. 

عراقياً؛ يمثل هذا بعداً مهماً بحاجة إلى دراسة معمقة خاصة على صعيد دورة مجدية ومؤثرة للاقتصاد الكاربوني تتناسب وبرامج التنمية الاقتصادية المستدامة ومشاريع ذات جدوى اقتصادية وبيئية. 

وحظي غاز الميثان باهتمام خاص كونه سبب ثلث ارتفاع درجات الحرارة منذ الثورة الصناعية، ويمثل النشاط الإنساني 60 % من مجمل انبعاثات الميثان وبالتحديد الزراعة وشركات الطاقة الأحفورية من فحم ونفط وغاز ووقود حيوي. 

هذا الاهتمام يفتح الطريق أمام مشاريع للتخفيف والتكيف حول خفض انبعاثات الميثان في قطاعي النفط والغاز العراقي وفي الزراعة واستخدام التكنولوجيا الحديثة لتقليل الانبعاثات خاصة في قطاع الغاز الذي يملك العراق إمكانية كبيرة للتوسع فيه كأحد ستراتيجيات الحكومة الحالية لاستغلال حقول الغاز العملاقة. 

التأثيرات الاجتماعية

 سابعاً: من المخرجات المهمة هي تلك المرتبطة بالتأثيرات الاجتماعية للتغير المناخي بشكل مباشر نتيجة ندرة المياه وشح الغذاء أو في ارتفاع مستوى سطح البحر الذي يهدد عدداً من الدول الجزرية الصغيرة النامية. 

وقد شهد العقد الأخير تزايداً في ظاهرة النزوح الداخلي عالمياً ومنها العراق؛ حيث يقدم نزوح سكان الأهوار مثالاً نموذجياً وأيضاً تزايد النزاعات المحلية في المحافظات بشأن حصص المياه، وهي ذات علاقة مباشرة مع متطلبات التكيف للتغير المناخي عبر تقديم مشاريع لتحسين أوضاع النازحين والتقليل منها على صعيد محافظات محددة عبر مشاريع محددة جاذبة للتمويل والاستثمار وتحقق الاستدامة والعدالة المناخية. 

نوافذ متعددة

وقد وقعت خلال المؤتمر المئات من الاتفاقات ومذكرات التفاهم الحكومية والمجتمعية والصناعية والمالية والتي حصرها خارج نطاق هذه الإحاطة، ولكن من الواضح مما تقدم فتحت مخرجات "كوب 28" نوافذ عديدة في مجالات التمويل والشراكة واستخدام التكنولوجيا الحديثة والتي يمكن للعراق استثمارها للتحول نحو تحقيق إنجازات على الأرض حسب المحاور التي قدمتها وثيقة المساهمات المحددة وطنياً تجاه تنفيذ "اتفاق باريس" لتغير المناخ مع بعض التعديلات والإضافات، لتأخذ بنظر الاعتبار المجالات الجديدة والإحاطة الفعلية بأشكال وآليات التمويل والشروط العملية والفنية والزمنية للاستفادة منها لصالح العراق، وبالاعتماد على حزمة من المشاريع والبرامج البيئية وبالتكامل مع القطاعات الحكومية ذات العلاقة ومنها وزارة المالية وبإشراف وزارة البيئة للمضي قدماً في مسار التنفيذ. 

في كل هذا؛ يلعب خبراء البيئة بتنوع اختصاصاتهم وبما يملكونه من معارف نظرية وخبرات عملية وبحثية يمكن الاستفادة منها في مواجهة هذه التحديات. ويتطلب ذلك العمل على مقربة من لجنة البيئة والصحة في مجلس النواب العراقي ومجلس القضاء الأعلى لتحديد الضوابط والتعديلات القانونية الداعمة لها والاستفادة من ثقل العراق السياسي والاقتصادي والطاقوي دولياً وإقليمياً للوصول إلى أفضل النتائج نحو التخفيف والتكيف من تأثيرات تغير المناخ والتحديات البيئية الأخرى وهي ليست بالقليلة؛ والتي تتطلب عراقياً تحفيز أنماط مستدامة للعيش المستدام خاصة في استخدام المياه والطاقة عبر التوعية المجتمعية حول طرق العيش المستدامة في الأكل والشرب والملبس والنقل واستخدام المياه والكهرباء وحيث يلعب الإعلام ومنظمات المجتمع المدني العراقية دوراً مهما في تحقيق التنمية المستدامة في العراق.


•خبيرة في شؤون البيئة والتغير المناخي وهندسة الطاقة المتجددة

• عضو الوفد الرئاسي العراقي إلى مؤتمر الأطراف المناخي {كوب 28}