د. مروة حسن لعيبي
السلطةُ القضائية هي الركيزة الأساسية لبقية السلطات والمجتمع فهي حامية القانون ومُطبقته ومُكملته، بما لها من استقلال ومع المجتمع من جذور.
يسيرُ قُضاتها على خطى الانبياء فإن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا، فلهم أجرٌ واحدٌ بمنصب تكليفي تشريفي، لا ينالهُ الا من اختاره الله ليؤدي الأمانة ويتحمل المسؤولية، فهم رُعاة العدالة يمتزج في حكمهم العلم والفن، بما لديهم من صفات وما يُفرض عليهم من واجباتٍ، ويُتطلب بهم من شروط
فإلى جانب علمهم بالقانون والعلوم الاخرى المساندة يتطلب فيهم (الفهم)، ليصدروا حكما قضائيا يكسر جمود النص القانوني، ويكون بمثابة اكسير الحياة لشبابه ورونقه وتجدده مع كل حالة وقضية معروضة.
وأكدَ ذلك قوله تعالى في سورة الانبياء(وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَٰنَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَٰهِدِينَ فَفَهَّمْنَٰهَا سُلَيْمَٰنَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)، اذ خص الله عزوجل سليمان بفهم القضية وعمهما بالعلم، ويذكر انه جاء رجل لقاضي البصرة (الياس بن معاوية) وقال له علمني القضاء، فقال له إن القضاء لا يُعلم، انما القضاء فهم، ولكن قل: علمني من العلم.
ويصف الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الاشتر النخعي من يصطفيهم للقضاء: (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة ولا يحصر من الفيء إلى الحق اذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع ولا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه، واوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، واصبرهم على تكشف الأمور، واصرمهم عند اتضاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل، ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، فيأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فأنظر في ذلك
بليغا).
ولما تقدم فإن اجتهاد القاضي يعد من مصادر الحكم الشرعي في الشريعة ويدل على ذلك ان الرسول محمد (ص) ارسل معاذ قاضيا إلى اليمن، فقال له كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟
قال اقضي بكتاب الله، قال: فان لم تجد قال: اقضي بسنة رسول الله (ص)، قال : فإن لم تجد قال: اجتهد ولا ألوي، قال فضرب رسول الله (ص) على صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله)، كما يعد القضاء مصدرا استرشاديا للقانون الوضعي، حسب ما جاء بالمادة (1) من القانون المدني.
اما بالنسبة للقانون الجزائي، فإن القاضي بما له من سلطة في تكييف الوقائع يجعله منبرا لتحقيق القدر الممكن من العدالة، والتخفيف من حدة عمومية النص القانوني وتجريده، وأكثر ما يظهر ذلك في القضايا الجزائية، من خلال إعطاء القاضي الجنائي السلطة التقديرية في تفريد العقوبة الملائمة، ومنحه الحرية في الاقتناع، ولا يتعارض مع مبدأ مساواة الأفراد أمام القانون، بل على العكس يسعى إلى تحقيق العدالة، من خلال الملائمة بين الظروف الواقعية للحالة المعروضة عليه والعقوبة التي يقررها، مع مراعاة شخصية مرتكب الجريمة، والعوامل التي دفعته إلى الاجرام حتى تتحقق غاية القانون في تحقيق العدالة وغاية الجزاء الجنائي في التأهيل والاصلاح، ويكون ذلك من خلال استعمال واحد أو أكثر من اساليب التفريد القضائي والمتمثلة بنظام التدرج الكمي والنوعي للعقوبة، والظروف القضائية المخففة، ووقف تنفيذ العقوبة وتأجيل النطق بها.
هذه المنزلة الرفيعة تتطلب قدرا كبيراً من المسؤولية امام نفسه، وجهة انتسابه والمجتمع والقانون ولامسوؤلية عليه، إلا على تعمد مخالفة القانون والدستور والإهمال الجسيم في أداء واجباته، وفقا لما ورد في قانون التنظيم القضائي وقانون العقوبات.