روايات الأجيال.. بناءٌ بانورامي

ثقافة 2024/01/30
...

  أحمد الشطري

توصف روايات الأجيال أو ما تعرف بالفرنسيّة برواية النهر (LE ROMAN Fleuve) أو رواية الملحمة كما في الأدب الإنكليزي، بأنها تيار مهم من تيارات الرواية، والتي شهدت قمة تطورها في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ولكن بداياتها قد تكون أبعد من ذلك، إذ اعتبرت رواية (لاستري L’Astrée) لأونوريه دورفي (Honoré d’Urfé) أولى الروايات النهرية والتي صدرت في القرن السابع عشر، وهي رواية رعوية، والروايات الرعوية انتشرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر في فرنسا، تتحدث عن تلك العوائل الثرية التي اختارت العيش في الريف ورعاية المواشي بعيدا عن مجتمع المدينة وما فيه من مؤامرات، متناولة في الغالب العلاقات العاطفية. وتبدو أهمية روايات الأجيال، أو النهر كونها ترسم مخططا للتطور الاجتماعي والفكري والسياسي والثقافي لمجتمع الرواية على مدى عصور مختلفة.
غالبا ما يشار بمفهوم رواية الأجيال إلى تلك الروايات ذات الأجزاء المتعددة، والتي يتم من خلالها تقديم سلسلة من الحكايات لأجيال متعاقبة زمنيا وقد تكون مترابطة في علاقاتها الاجتماعية، وهذا ما كان شائعا في بداية نشوء هذا التيار في الأدب الغربي منشأه الأول.
وفي هذا الإطار كانت هناك مجموعة من الروايات في الأدب الفرسي تحديدا، صدرت بسلسلة من الأجزاء، وعلى مدى أعوام متعددة، كرواية (جان كرستوف) لرومان رولاند والتي صدرت بعشرة أجزاء على مدى ثمان سنوات، ورواية (آل ثيبولت)  لروجر مارتن دو جارد وقد صدرت بثمانية أجزاء على مدى ثمانية عشر عاما ونال عليها جائزة نوبل للآداب عام 1935.
ورواية لويس أراغون (العالم الحقيقي)، ورواية الإنجليزي جون غلزورثي (John Galsworthy) (ملحمة فورسايت The Forsyte Saga)، ورواية (ثلاثية القرن) للويلزي (كين فوليت) بأجزائها الثلاث (سقوط العمالقة- 2010)، و( شتاء العالم- 2012)، و(حافة الخلود- 2014).
وتتبع هذه الرواية حياة خمس عائلات مترابطة على مدار القرن العشرين راسما صورة بانوراميّة لأهم الأحداث فيه وانعكاساتها على شخوص هذه العوائل.
وكذلك خماسية الفلبيني (فرانسيسكو سيونيل خوسيه)، (ملحمة روزاليس) والتي كتبها على مدار الفترة من 1962 ولغاية 1984، وتتبع الرواية حياة عائلتين من فترة احتلال الفليبين من الإسبان والأمريكان حتى الفترة التي تلت الاستقلال.
لم يقف مفهوم رواية الأجيال عند حدوده الأولى التي حصرته بتلك الروايات المتعددة الأجزاء، وإنما أصبح يشمل حتى تلك الروايات التي لا تعتمد تعددّية الأجزاء، بل يكفي في الرواية حتى توصف بهذا الوصف أن تتناول دورة حياة أجيال متعاقبة، حتى لو كانت من جزء واحد بغض النظر عن الحجم وعدد الصفحات.  
ومن السمات الأساسية لروايات الأجيال في صورتها المعتادة أو المترسخة، هو استقلالية كل جزء من أجزائها بتمامية الحدث السردي، بما يسمح بقراءته منفردا، ولكنها تلتزم في ذات الوقت بوثاقة ترابط الأجزاء في هيكليتها المتراكمة؛ لتكون وحدة متكاملة يكمل بعضها بعضا بحيثيات متعددة، ولعل أهمها هي وحدة ثيمة الصراع، ومن الميزات الأساسية لتلك الروايات هو طول المساحة الزمنية التي تشغلها الأحداث باعتباره أحد العناصر الأساسية في البناء السردي، ورصدها وإبانتها لمختلف التحولات السسيوثقافيّة التي تواجه مجتمع الرواية بما يتوازى مع تحولات الواقع اليومي، من خلال التركيز على تتبع تعاقب صراعات أجيال العوائل الفاعلة في الرواية، كما أنها تتسم بتأكيدها على التحليل الدقيق للشخصيات الفاعلة، وهي بكل تأكيد لا تختلف من حيث تقنيات السرد الأخرى عن أي نوع آخر من أنواع الرواية.
لقد شكل هذا النوع من الروايات بنماذجه المضيئة في الأدب الغربي حافزا للروائيين العرب لكتابة سلسلة روايات تتمثل ذلك الأسلوب، ولعل من أهم تلك النماذج في أدبنا الروائي العربي هي ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة (بين القصرين وقصر الشوق والسكرية) ويقدم محفوظ في هذه الثلاثية صورة بانورامية تأريخية لمجتمع القاهرة على مدى أربعة عقود من خلال تتبعه لحياة أسرة السيد أحمد عبد الجواد وأولاده وأحفاده.
والنموذج الآخر هو خماسية مدن الملح لعبد الرحمن منيف والتي تتقصى في جزئها الأول أولى بوادر ظهور النفط في الجزيرة العربية وما واجهته عملية تغيير طبيعة الأرض من الحقل الزراعيّ إلى الحقل الصناعيّ من رفض من قبل مالكي تلك الأراضي والقمع الذي تعرضوا له، وما رافق ذلك من محاولة نقل الإنسان من عالم البداوة إلى عالم الحضارة.
ثم جاءت بقية الأجزاء لتعرض صورة للصراع على السلطة بين أجيال العائلة الحاكمة، والدور الذي تمارسه الدول الاستعمارية ممثلة بأمريكا في إدارة تلك الصراعات العائلية والقبلية، ولترسم صورة بانورامية للتغيرات الاجتماعية والديموغرافية والاقتصادية على منطقة الصراع في إطار توليفي بين المتخيل والواقع.
وعلى صعيد الرواية العراقيّة فتأتي ثلاثية عبد الخالق الركابي (الراووق 1986) و (قبل أن يحلق الباشق- 1990) و(سابع أيام الخلق- 1994) ثم أتبعهن بـ (سفر السرمدية- 2005)، وهذه الأجزاء الأربعة ترتبط بثيمة واحدة هي مخطوطة الراووق، ومن خلالها يرصد الروائي التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية عبر مساحة زمنية تمتد لما يقرب من القرنين، كما تصور تغيرات الفضاء المكاني المختلفة والتي تتسع مع تعدد اتساع عملية السرد عبر تعدد أجزاء
الرواية.
مصورة وفقا لفاضل ثامر” عالما ثنائي التركيب يجمع بين تحضر مديني أولي وحياة ريفية في الجوار، كما أتضح في الجزء الثاني، ليتحول هذا الفضاء المكاني إلى فضاء مديني متحضر في الجزء الثالث، وتتحول محافظة (الأسلاف) الافتراضية إلى صورة مصغرة لمدينة بغداد وربما العراق بكامله؛ لذا يمكن القول إن الرواية تقدم شهادة فنية وجمالية وسردية لنمو مظاهر التمدن والتحضر والتحديث في المجتمع العراقي الحديث خلال القرنين الأخيرين».
والنموذج الآخر يتجلى في رواية (شبح نصفي) لمحمد خضير سلطان، وهي على قصرها تقدم لنا رواية أجيال من خلال تعقب الراوي لتنقلات عائلة (آل فالح) بأجيالها المختلفة بحثا عما يمكن أن يوفر لها حياة الاستقرار، ومن خلال مسيرة التنقل هذه يعرض الراوي لصور متنوعة للتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع العراقي.
ويبدو من خلال رواية محمد خضير سلطان وغيرها من الروايات المشابهة أن السمة التي كانت غالبة على ما تتسم بها روايات الأجيال أو روايات النهر من حيث الحجم، والذي كان يستغرق كما كبيرا من الكلمات أو الأجزاء، قد أصبحت تميل إلى التقشف أو الاقتضاب لكي تواكب حركية العصر المتسارعة.