فؤاد جهاد.. بنية الحكاية وصناعة البهجة

ثقافة 2024/01/31
...

  د. جواد الزيدي


على الرغم من حياته القصيرة الممتدة بين تاريخ ولادته في الناصرية العام 1948 ورحيله الأبدي في بغداد العام 2004، إلا أنّ الفنان فؤاد جهاد استطاع حرق الأزمنة من أجل الوصول وبسرعة إلى أهدافه المنشودة وتلقفه السريع للمضامين التي انضوت لوحته تحت معانيها الكبيرة، وأن يؤسس لنفسه منهج اشتغال جماليّ خاص تلتقي فيه تقنيات ورؤى تستمد حضورها من التّراث الشرقيّ والعراقيّ بمختلف تنوعاته من الحكايا والاسطورة وفضاءات الحرف العربي، بوصفها مصادر أصيلة يمكن الركون إليها على أن تكون مثابات الانطلاق منها إلى صياغات تتسع في الشكل ومعناه المنفتح على أكثر من قراءة تأويلية تتصير ببنيتها المتفردة، حين تتم المزاوجة مع آفاق الحداثة التي تعلمها سريعاً أثناء دراسته العليا في بلغاريا وهنغاريا سبعينيات القرن الماضي، ونهل من هذا المصدر الجمالي وسعيه الواثق بإمكانية التعالق مع جذوره الفنية العراقيّة وأصوله الحضارية التي يُمكن أن تكون مرجعاً فكرياً وجمالياً في الوقت نفسه من خلال ما تنضوي عليه من طقوس وحكايات تتضمنها الاسطورة والحكاية الشعبيّة الكامنة في قصص ألف ليلة وليلة وانشطار الصورة التي يتضمنها المعنى الكامن في كل واحدة من هذه الليالي التي تمتلك خصوصيتها وسياقها التاريخي الذي يفارق حكاية الليلة السابقة، بما يؤدي إلى مضامين وصياغات شكلية مختلفة 

بالتأكيد.  وقد سار (جهاد) على طريق تمثلات السرد وتصوير تلك الحكايا مثلما فعل سلفه (الواسطي) من قبل باستثمار مقامات الحريري وتحويلها إلى خطاب بصريّ ضمن اشتراطات مدرسة فنيّة لها قوانينها في التشييد والانشاء التصوري، ليوائم هذا الخطاب بين اللساني والمرئي في مشتركات نصيّة واحدة.

إن سنوات فؤاد جهاد (الست والخمسين) التي قضى معظمها في النبش عن الأصول الجماليّة التي تم توظيفها في سطحه التصويريّ شكلت حافزاً ذاتياً لتتويج خطابه البصري وإضافته الجوهرية على مستوى الكم والكيف، وقد يتجاوز أثر التجربة وحضورها سنوات الفعل الانجازي إذا ما تم اعتماد السياق الزمنيّ في هذه المقاربة، فضلاً عن اسهامه في رفد المشهد التشكيليّ العراقيّ بإنموذج خالص الجمالية، ونقي المرجع والمنابع التي حاول أن يغرف منها كل منجزه الفني، بما يمثل اتجاهاً جديداً يزاوج بين القديم والجديد والمعاصر الذي يتخذ من اشتغال الحداثة في التصوير أساساً لبنائية تقصدت الاتصال بالجذور المحلية ضمن الجماعة التي صاغت مشهدية الفن الحديث العراقي التي التحق بها وحاول أن يجد مقارباته الرسومية التي تقف بين الواقع المُعيش أو المتخيل وطرائق التعبير عنه باستنطاق العلامات الحروفية العربيّة الممثلة للروح الشرقية عندما شارك في المعرض الأول لجماعة البعد الواحد العام 1971 انطلاقاً من فكرة العودة للأصول الأُولى التي تشير إلى تمسكه بجذوره الشرقيّة والعربيّة، ومحاولته التعامل مع الحرف العربيّ في خطابه البصريّ، فضلاً عن المنمنمات أو المكملات الجماليّة في لوحته المرسومة، معتمداً دقة التصوير حتى تصل به الحال إلى استخدام أحجام الفرش بمقياس (صفر) – كما قال لي ذات مرة وهو يقوم بتدريس مادة الرسم في كلية الفنون الجميلة ببغداد- من أجل تصوير أدق التفاصيل والامساك بها، تلك التي يحتاجها في لوحته ضمن طقوس خاصة بالرسم وبه أيضاً، ووقوفه خارجها عندما يهجر مساند الرسم أو طرائق التلوين والجلوس الاعتيادي، فهو يفترش لوحته الأرض ويحاول الاقتراب من أجزائها بطريقة الانبطاح على البطن، لكي يحاول الامساك باللون والانتعاش برائحة الزيت الذي تتوشح به أشكاله المرسومة، وكأنه يحيا الفعالية ويعايشها بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه، وليس أن يقوم برسمها فقط أو استجلاب مضامينها إلى قماش اللوحة. بيد أن هذه الممارسة الرسوميّة قد تسهم في تأخير إنجازه الفني، كونه معني بالجزئيات والتفاصيل الدقيقة واظهار ملامحها الرئيسة التي تتم رؤيتها ضمن نسقيّة الحكاية وبنيتها السرديّة.

 وعلى الرغم من مشاركاته الجماعية المتعددة داخل الوطن وخارجه، إلا أنه أقام معارض شخصيّة عدة لفنه في أماكن مختلفة، (3) ثلاثة منها في بودابست عندما كان هناك يُكمل دراسته العليا، وأُخرى في بغداد من أجل عرض تجربته وايجاد نقاط تواصل مع الآخر وتوسيع أُفق التلقي والتعرف على صيغ الاشتغال التقني والمضموني الذي يعتمده أو تقترن به تلك المحاولة الفنية، وتكريسها منذ بداياته في تلمس طريقه إلى مكامن الجمال الحقيقي والتعبير المُفعم بحياة الناس وتاريخهم الجمعي، بما تمثله الاسطورة واليقين الشعبي من مرجعيات أساسية وأكيدة لمكانية محددة استطاع التشاكل معها معرفياً لتقديم منجزه المختلف. وعلى الرغم من بعض التماثلات التقنية والأسلوبية مع بعض أبناء جيله والنزوع إلى المنابع ذاتها ، إلا أنه استطاع صياغة خطابه البصري الخاص على مستوى التقانة وأدوات الاشتغال التعبيري، بما تفرضه الفرادة والرؤية الشخصية التي أحب فيها الناس والوطن والفن، وأخلص بجدية لهذه الموضوعات مجتمعة محاولاً المزاوجة بينها من خلال البحث عن جوهر هذه المضامين وتوظيفها داخل لوحته. فهو يعمل على تضايف الأزمنة داخل اللوحة الواحدة أو مجمل خطابه البصريّ، بمعنى استجلاب الحكاية أو الاسطورة من أعماق التاريخ وترحيلها إلى خطابه المرئي المعاصر ليعلن عن تراكم التواريخ والأزمنة واستمرارها من دون أدنى إنفصال يذكر، إذ أن حكايته مستمرة من زمن الواسطي إلى زمنه الحاضر والآني.

 يربط الليل بالنهار اذا أراد إنجاز ما يراه مناسباً لتلك اللحظة، أو ما ما مطلوب منه لأغراض تسويقيّة، فيهرع إلى عالم أليف، يذكرنا بالقرون الوسطى، بيد أن الجماليات التي تميز لوحاته تنتمي لفكرة الأحياء. وربما لهذا السبب نراه يسعى لخلق وحدة عضوية ينسج أواصرها بين الماضي والحاضر، وحدة بين المضمون – القديم والمتكرر- والأسلوب المعاصر، على الرغم من أسلوبه الذي يذكرنا بالمنمنمات، والأساليب التي ظهرت في بغداد الواسطي. إن الجماليات في لوحته تتصل بالمناخ الذي يصفه بعناية فائقة، ألوان ذهبيّة وفيروزيّة، بشر يهمسون بسريّة ولكن بلا أسرار سوداء. إنه ضرب من الشعر التقليدي محكم البناء، وهو شعر لا يرهق الذاكرة في الحالات كلها، وهكذا يكتسب جماله التلقائي والمصنوع معاً.

كان جهاد من الفنانين الذين أنتجوا فناً يعتمد على الحكايات والأساطير، مثل ألف ليلة وليلة، لكنه يسجل اختلافه الأسلوبي لأن التكوين لديه يميل إلى التعقيد وكثرة التفاصيل، لاستخدامه إضافات زخرفيّة ومكملات جماليّة وتفاصيل تصب في خدمة مناخات اللوحة وهدفها في نقل المتلقي إلى أجواء الحضارات الاسلاميّة الوسيطة والطرز المعماريّة السائدة آنذاك، فضلاً عن مهارته الفائقة في توظيف رقائق الذهب لتعزيز الشعور بالفخامة والأهمية التي كانت عليها المراكز الحضارية الإسلامية، بوصفها مراكز للعالم المتطور آنذاك. ولهذه الأسباب جميعاً تظل تجربته شديدة الألق في حضورها داخل مشهديّة الرسوميّة العراقيّة، والنماذج التي تُعلن تمسكها بالجذور المحليّة وتثوير مفرداتها لتكريس حداثتها الخاصة.