هاشم تايه
تعكس مجموعة لوحات الفنّان نصير شمّة إحساساً عميقاً بالتّناغم الكونيّ الذي يعمّ الوجود، ويسري في الموجودات، رقيقاً، حانياً، في حياةٍ كامنة وراء الحسّ، تنتظم وحداتُها التي تُشبه (مونادات) لايبتنز، وتتفاعل، في انسجامٍ كلّيٍّ، داخل تكوينٍ ملتحمٍ ببعضه، لا يعنيه إلّا أن يحرس حدوده جيّداً من أيّ نشازٍ قد يتطفّل على حياته الدّاخلية، فيُطيح ببراءتها، وباستهوائها ذاتَها المحترسة، الملتمّة على كيانها بغير قليل من التأفّف ممّا يجري حواليها من حماقاتٍ، وفظائع. كأنّما الفنّان كشط جلداً، وجرّد مادّةً من قشرتها، وأطلعنا على ما يجري تحتهما من تفاعلاتٍ حيّة لا يقرّ لها قرار بين وحدات الوجود البدئيّة التي تمثّل جوهره الغائر في حياةٍ يسودها التناغم، والانسجام، ولا تمتثل إلّا لنزوعها إلى الإنصات العميق.
إنّ السرّ هناك يحيا في تلافيفه الجوفيّة، منشغلاً بإنصاته لنشيده الكونيّ، الشّامل، الخفي المنبعث من روحٍ عُلويّة سامية ذائبة في كلّ شيء، وما من شيء إلّا في حالٍ من الوجد، والسّكرة، والانتشاء، وفي انجذابٍ تامّ للسرّ الأعلى، وتوقٍ للاندماجٍ بحياته. أليس هذا ما سعى شمّة إلى إضاءته لنا، عبر هذه الجراحة الفائقة لمادته التي استثمرها، وسَوَّى بها سطوحه؟
وضع نصير شمّة مسافةً تعنيه، وتقع بينه وبين الرّسم، فالرّسم يبدو مستبعداً، بفعله المعروف، خارج أُطُر أعماله، والسّطح الذي استقبل إجراءه الماديّ، وتسوياته لا يبدو سطحاً تصويريّاً، بقدر ما يبدو لوحاً انبسط طولاً وعرضاً لاستضافة مادة- نشارة خشب- تراصّت أجزاؤها على مساحته، ثم اصطبغت بتركيبةٍ لونيّة متناغمة. والنتيجة كانت لوحاً ناتئاً اُستُثيرَ بصبغةٍ لونيّة منسجمة، وتفاعل، داخل حدود هذا اللّوح، ما نتأ من مادته، وما تجوّف. وإذاً فالفعل الذي قام بتسوية السّطح، في هذه الأعمال، ليس فعل الرّسم، بل هو فعل الإكساء، إكساء بمادة أُسبِغ عليها خليطُ صبغة. والإجراء الذي اعتمده الفنّان لاستثارة أسطحه لا يتعدّى ما يُعرف بالتّرصيع الذي أنتج، في النّهاية، سحنةً موحّدة كستْ مفرداتِهِ التي تراصت، ولم تسمح لأيّ فراغ يُقلق حياتها. (لا فراغ، فالوجود محضُ حاضنة لكينونة من مادة صوتيّة منغّمة). وباستبعاد فعل الرّسم، وبتحوّل السّطح التّصويري، إلى ما يُشبه لوحاً صوتيّاً، استُبعِد التّعبيرُ كذلك، أو جرى التخفّف من أثره لصالح تأمّلٍ باردٍ قام بتصفير علاقات اللّوح بما يقع خارجه. ويبدو أنّ قصداً ذهنيّاً مُبيّتاً استقرّ على رفّ عقل الفنّان بتصوّرٍ عن سرٍّ ما يقف وراء انتظام العوالم في بنيات، وهيئات محددة، ويحرس حياتها، وهذا القصد المؤلّف في الوعي جرى تحويله من مفهوم إلى مادة عيانيّة غادرها الخيال، متحوّلة إلى فرشةٍ تجريديّة مطبوعة بسماتٍ تزيينيّة لاستهواء العين. كأنّ ألواح شمّة، في إطار معالجاتها سطوحَها اتسمتْ بسماتٍ موضوعيّة عامّة جعلتْها أقرب إلى الآثار، والتّحف التي يُنتجها الحرفيّون في تماثلاتها النّسخيّة المُصمّمة ببرود، في ضوء خرائط مُعدّة، وخطوات عمل متعاقبة. إنّ روحاً من اللّطافة، والرّقة، ومن الصّرامة كذلك، كأرواح الحرفيّين، روحاً تعيش في الأرق، أظنّها وراء كل لوح من ألواح هذا الفنّان المحترف. إنّ من بين مزايا هذه الألواح التّزيينيّة قدرتَها على إدماجنا في تأمّليّتها بتضييقَها فُرصنا في اختراع التأويلات لمادتها المتحقّقة على أسطحها بلا تمثيل، مجرّدةً من الوصف، محترسةً من المعنى، والتّعبير، وبلا مفردات مرئيّة مركزيّة يمكن للعين التّعلّق بها للاستضاءة، والتعرّف، وإطلاق التأويلات. هل تعمل الموسيقى هنا أيضاً؟ أظنّها تفعل! فألواح شمّة حافلة بالتّوالد لوحداتها الماديّة التي لا تني تتكاثر، وتحتشد مكتظّة، وتحتكّ ببعضها، كالأنغام، متزاحمة في نسقٍ من التّكرار الذي لا ينقطع، خالقةً بذلك زمنيّةً مفتوحةً يمكن أن تُقيم فيها الأبديّة، وتسترخي.
إنّنا نواجه ألواحاً صوتيّة بالغة الحساسيّة، والاستشعار، حافلةً بذبذبات خلطاتها اللّونيّة الموقّعة، وترجيعات مادتها المحتكّة ببعضها. وعلينا أن نرهف السّمع، وألّا يفوتنا التعرّف باللّمس، إلى جوار استثمارنا أعيننا، وذلك يعني أن نقترب من هذه الآثار بآلية للنظر، والتحقّق تندمج فيها ثلاث حواس، وتتآزر لتخلق شكلاً من أشكال المقاربة المتفاعلة. لعلّ ألواح شمّة هي أعواده المحبّبة تسطّحت من أجل أن نرى على بسطاتها ألحانَها بالأعين، وأن نلمسها بالأصابع أيضاً. (استباقاً لمعرضه المزمع إقامته في العاشر من شباط القادم في غاليري الاتحاد
بأبو ظبي).