طيف الأنوثة في الملاحم الهوميريَّة
جين بيردسلي
ترجمة: عبود الجابري
رغم تركيز الأدب اليوناني القديم على الشخصيات الذكوريَّة، إلّا أنَّ التحليل الأدبيَّ لشعر هوميروس يكشفُ عن تساؤلٍ بشأن الأنوثة والأمومة ومعنى كينونة المرأة في اليونان القديمة. وقد ابتكر شعراء هوميروس في الإلياذة وتكملتها الأوديسة، طيفًا من الأنوثة المثاليَّة تقابلها أنوثة غير مثالية، مع هيلين سيئة السمعة من جهة وبينيلوب المخلصة من جهة أخرى. ويكشفُ تشريحُ كلِّ ملحمةٍ عن استكشافٍ لهذا الطيف من الأنوثة من خلال استخدام الشعراء زخارفَ السرد في تصوير الطرق التي جسّدت بها البطلتان خواص الأنوثة.
لتقديرِ الطرقِ التي تُجسّدت بهما خواص الأنوثة المثالية أو غير المثالية من خلال المعايير الأدبية، يجب على المرء أولاً بناء فهم للأنوثة في اليونان القديمة. لبناء هذه المعرفة، يمكن للمرء أن يتخيل طيفًا، أو خطًا مستقيمًا له قطب في كل طرف. وفي وسط هذا الطيف تقع الأنوثة الأساسية، وهي المعايير الإلزامية التي توقَّعَ المجتمع اليونانيُّ القديم من النساء الالتزام بها. يتضمَّن هذا المستوى الجمالَ، والنسجَ على النولِ، والخضوعَ- بما في ذلك الخضوعُ الجنسي- تضاف إليها عناصر أخرى هي الحكمة والولاء الزوجي وتربية الأطفال.
استخدم شعراء هوميروس زخارف السرد والنسجَ على النول لتمثيل الأنوثة المثالية مقابل الأنوثة غير المثالية. في المقام الأول، استخدمت هيلين فنَّ الحكي لممارسة القوة وتحدي السرد الذكوري في الأوديسة. أثناء إقامتها بصحبة الرجال في بلاطها، أرادت هيلين أن تحكي قصةً، لكنها أدركتْ أنَّ إلقاء خطاب بين الرجال سيكون أمرًا غير مقبولٍ اجتماعيًا؛ ولذلك اختارتْ أن “تخلطَ الخمرَ بالمخدرات” حتى يسمحَ لها الرجال بالكلام. وفي حين يوضِّح هذا الفعلُ وحده رفض هيلين قبولَ القيودِ المفروضة عليها من قبل المجتمع الأبوي، فإنَّ القصَّة التي ترويها تعطِّل أيضاً هيمنةَ الذكور من خلال معارضةِ السرد، تكشفُ أنَّها لم تتعرف وحدها على أوديسيوس عندما دخل طروادة فحسب، بل إنَّها أيضاً «غسلتهُ ودهنتهُ بالزيتِ وألبستْهُ ملابسَه»، وهي تفاصيل ذات دلالاتٍ جنسية. بالإضافة إلى ذلك، ألقت أيضًا باللوم على الإلهة أفروديت لأنها جعلتها “تُصابُ بالجنون”، ما دفعَها إلى ملاحقة باريس، وبالتالي محاولة التخلص من أي لوم على أفعالها. من خلال سردِ هذه القصَّةِ بحضورِ الرجال- بما في ذلك زوجُها الملك مينيلوس- مارستْ هيلين هذا السلوك، حتى أنَّها ذهبت إلى حدِّ الكشفِ عن تفاصيل يمكنُ أن تشير ضمنًا إلى الخيانة الزوجية، والتي عطلت هيمنة الرجالِ وسيطرة زوجها عليها، فضلاً عن الجرأة في تناول الخيانة الزوجية.
ومع ذلك، فمن الجدير بالملاحظة أنَّ مينيلوس أتبعَ قصَّتها بواحدةٍ من قصصِه، ما يشيرُ ضمنًا إلى أنَّ هيلين ربما لم تكن موالية للآخيين. كما كانت بالنسبة لأحصنةِ طروادة المعارضة. قال: “إنَّ روحًا ما كانتْ ترغبُ في تمجيدِ الطرواديين حثَّتكِ على ذلك”، ما يشيرُ إلى أنَّها لم تكن مخلصة للآخيين فحسب، بل لهُ أيضًا. وبينما استهلَّ هذه القصَّة بالاتفاق مع هيلين، فإنَّ القصةَ التي رواها رسمت لها صورةً مختلفة. وهكذا، من خلال فكرةِ السرد القصصي، يمكن للمرء أن يرى هيلين وهي تُعطِّلُ هيمنةَ الذكور، ولكنَّها أيضاً مضطهدةٌ بسببها.
في المقابل، استخدمت بينيلوب قصصاً مليئةً بالإشارات إلى أوديسيوس، ومختلطةً بشوقها إليه، ومتعاليةً بولائها له. على سبيل المثال، بعد أن أغرقَها أحد الخاطبين بالمجاملات، “ردت بينيلوب بحذر”، وانتهزتِ الفرصةَ لتخبر الخاطبين عن اللحظات التي استمتعتْ بها مع زوجها الذي غادر للقتال في حرب طروادة، وأنّها لاحظتْ أنَّ الآلهة “دمرت مظهرها في اليوم الذي انطلق فيه اليونانيون إلى طروادة” وأنَّ عودة أوديسيوس إلى المنزل هي الطريقة الوحيدة التي يمكنها من خلالها استعادة “اسمها الجيد” و”جمالها”، وأنهت قصَّتها بمرثية.
نسبت بينيلوب جمالها ومكانتها إلى زوجها، ولعنتِ الآلهة لأنَّها سمحت للبؤس بأن يحلَّ عليها، وطلبت الهدايا من الخاطبين، ما يجسِّدُ رغبتها في المساهمة في سطوةِ زوجها ومحاولتها تنمية ثروته مع التأكيد أيضًا على ولائها له، وقد كان أوديسيوس يشعر بالسعادة عندما كان يستمع إلى حديثها، كان المقنع “سعيدًا لأنَّها كانت تستدرجهم لشراء الهدايا من خلال أسلوبها الذي يسحرهم بالكلام الجميل.
ظهرت حالة أخرى ربطت فيها بينيلوب قدرتها على سرد القصص مع ذكائها عندما أخبرت أوديسيوس المقنع عن حلمها المشؤوم، حيث كشفت بحذر شديد له أنها شاهدت “نسراً ضخماً بمنقارٍ مُدبب” يقتل “عشرين إوزة” أثناء نومها، وأخبرتهُ أنَّ النسر تحدَّث معها بعد ذلك “بلغة بشرية” وأخبرها أنَّ زوجها سيعود في الواقعِ على هيئةِ نسر “ليضع نهاية قاسية للخاطبين الذين يمثلهم الإوز”. ردّاً على ذلك، طمأنها البطلُ المُتنكِّرُ على شكلِ متسوِّل بموافقتِه على أنَّ حلمها يعني «خراب الخاطبين» على يد «أوديسيوس نفسه». وبينما لم تكشف الملحمة عمّا إذا كان المتسول الذي تحدثت إليه هو زوجها متنكرًا أم لا، فمن الواضح أنَّ بينيلوب أخبرته بهذا الحلم للإيحاء بأنها تروم طرد الخاطبين، ويستولي عليها الشوق إلى زوجها. وهكذا، من خلال الجمع بين رواية القصص والذكاء لمناقشة ولائها وخضوعها لزوجها، جسدت بينيلوب الأنوثة المثالية؛ وفي الوقت نفسه، من خلال استخدام سرد القصص لاكتساب القوة في المجتمع الأبوي، أظهرت هيلين أنوثة غير مثالية.
كان النسج على النول هو الفكرة الثانية التي استخدمتها الملاحم الهوميرية لتوضيح طيف الأنوثة. في حين كان النسج عنصرًا من عناصر الأنوثة الأساسية التي كان من المتوقع أن تمتثل لها النساء، فقد أظهرت كل من هيلين وبينيلوب شخصيتيهما وأنوثتهما من خلال النسج- كان عمل هيلين على النول امتدادًا لرغبتها في ممارسة القوة، في حين كان عمل بينيلوب شكلاً من أشكال الولاء لزوجها. في الإلياذة، وُجدتْ هيلين «تنسج شبكة عظيمة»، ومن خلال الخيوط التي نسجتها، مارست هيلين القوة من خلال سرد نسختها الخاصة من الأحداث في هذه الوسيلة الأنثوية على وجه التحديد. على الرغم من أنَّ التفاصيل الدقيقة لـ”الرداء الأحمر القابل للطي” الذي خاطته لا تزال غير واضحة، إلا أنّه يمكن استخلاص جوهره من محادثتها مع والد زوجها، الملك بريام، بعد بضعة أسطر. عندما وصفت الرجال الآخيين لبريام وحاشيته، أشارت هيلين إلى نفسها إلى أنها “مساعدة في الحرب”، وألمحت ضمنًا إلى أنها ترفض التقليل من دورها في حرب طروادة من خلال سرد روايتها للأحداث، وهي الجوانب التي من المحتمل أنها شكلت تصميم الرداء الذي نسجته، في نسجِها على النول، رفضت هيلين السرد الذكوري وألّفتْ سردًا خاصًا بها، متحديةً هيمنة الذكور وممارسة الفاعلية.
من ناحية أخرى، استخدمت بينيلوب النسج على النول لإثبات ولائها لزوجها، وكما كشفت الملكة المرهقة لأوديسيوس المقنع، فقد أخبرت خطيبها أنها ستتزوجُ أحدهم بمجردِ الانتهاءِ من نسجِ الكفن الجنائزي لليرتس، والد أوديسيوس. ومع ذلك، كان وعدها مخادعاً، “’في النهار كنت أنسج النسيج/ وفي الليل على ضوء المشاعل، أنقضهُ’’،” ذلك ما أخبرته به، وهكذا، من خلال الحياكة والذكاء، ظلت بينيلوب وفية لزوجها وحمَت مملكته لأطول فترة ممكنة قبل أن يتم القبض على الخاطبين.
____________
- جين بيردسلي: كاتبة أميركية مختصة في علم الأحياء والأجناس البشرية
- المصدر: The inquiries journal