جبار الكواز
تقودنا نصوص حسين السيّاب في مجموعته الشعرية «مطرٌ على خدِ الطين» إلى استكناه أطر تجربته الإبداعية، بوصفها مؤشراً جمالياً يقودنا إلى كشف معالمها وآلية اشتغالها الشعري وعلاقته بواقعه وباللغة التي حمّلها رؤاه وانبثقت من خلال خوضه تجارب متنوعة على مستوى الواقع والمخيّلة.
وقبل الشروع في هذا القصد، لابد أن نمرّ على العنوان بوصفه المهاد الأول الذي يؤشر لنا معالم نصوص المجموعة فـ «مطرٌ على خدِ الطين» عنوان يحمل بعداً رومانسياً واضحاً وعابقاً برؤى الحياة الواقعية التي يعيشها الناس، وهو يقودنا إلى تجارب من الواقع يتنفس بها مكبوتات إشارية تتعلق بالحبّ وما يحيط به من علاقات متشابكة بتلاوين متنوعة ومتعددة وفقاً لطبيعة المجتمع ورؤيته للحب كمفهوم مكبوت يواجه رفضاً اجتماعياً حيناً، وربما قامعاً بسبب هذه الحجة أو تلك، لكن المتابع للنصوص يلمس سمو المعاني التي تعامل معها الشاعر ونصاعة بياضه الروحي وأفق سيرورة النصوص ولغتها المكونة لها، فنحن إذن أمام تجارب إنسانية حياتية واقعية يحاول فيها الشاعر صناعة واقع مخلّق يبتعد فيه عن واقعه المقيّد والقامع.
يتسم هذا الواقع بجمالية رفيعة في صياغة ثيمة نصوصه لخلق معادلة موضوعية بينه وبين الآخر/ الأنثى بمعان ثرة وبعد خلقي متجدد يأخذ من عوالم الطبيعة إشاراتها الرمزية لتوكيد قيمة العلاقة بين الاثنين.
ففي أكثر النصوص نكون أزاء واقعين يصبان في مجرى واحد؛ واقع متعال سماوي يصل إليه معرّجاً وسارياً في السماوات العلى للبحث عن مثاله السماوي الجمالي الأعلى، وواقع آخر هو واقعه الذي يعيشه بكل إشكالياته الجمالية والثقافية والمجتمعية، فنرى الشاعر منغمراً بقوة مخيلته لتجسيده الواقع السماوي كواقع ثان أزاء ما عاشه في واقعه الأول، فيتخذ من رموز الطبيعة رؤاه في ترميم ما يعيش من أجواء واقعه الأول.
هذا الصراع بين رؤية معراجية متعالية سماوية وبين رؤية تتسم بالصد والعنف والخوف والقلق يظهر جلياً في صراع خفيّ بين الواقعين، ففي الاشتباك بين الرؤيتين والصراع بين رموزهما تتأطر مثلٌ جديدةٌ يكون فيها الشاعر هو المنتصر، وفقاً لانحيازه إلى الجمال والحب والحياة بأبعاد نصوصه المتسمة برؤى إنسانية رفيعة المستوى.
فهو بقوله (وأنا أبحث عن مدينة في مدينة/ والريح القديمة تصقل وجهي في ليلة عاصفة/ فيها الكثير من الدهشة والألم العظيم) لخّص في هذا النص محنته في التعامل بين واقعين، فالنص هنا بؤرة مركزية مكوّنة لأكثر البنى الشعرية للمجموعة فيه بحث عن واقع مفتقد ومتخيل في أحشاء واقع ماثل أمامه برياحه العاصفة ودهشة عوالمه وآلامه العظيمة، وهو يبحث عن دهشة الأنثى الجديدة التي افتقد صورتها في عالمه الذي يعيشه.. هذه الصورة المؤلمة تتكرر كثيراً في نصوص المجموعة
لتشتمل نصوص المجموعة كلها، وفقاً لاكتساب لغته، صحة رؤاه الجمالية ففي نص بعنوان (منزل السماء) تراه يقول: (وأنا أقف هناك/ خلف الله/ في منزل السماء/ مفرَّغاً من كل شيء) ففي صعوده المعراجي لصناعة رؤيته الجديدة يتخلّى عن متعلقاته الترابية الفانية ويسمو من خلف الله متطلعاً إلى فتوحات تكسبه امتلاءً روحياً جمالياً في لحظة إفراغه من كل شيء بالبحث عن معان جديدة تخلق المرأة وعلاقة الحب والأرض بصورة سامية بعيداً عن مفهوماتها في عالمه أو رؤاه الأولية وفي نص (ارضك وسمايّ) يقول موضحاً طبيعة رؤيته المعراجية (من بين طيّات السحب/ ياتيني صوتك/ فيأخذني منّي/ كالحلم تحت ضوء القمر/ حاضرة أنتِ ملء الغياب).
ففي هذا المقطع تتوضّح طبيعة تشكيل رؤيته المعراجية التي يتمسك بها كحلٍّ للوصول إلى علاقة ليست كالسابقة وأرض عاشها ولم يعشها معاً وإشكالية وجوده ما بين عالمين متواجهين في داخله ومنسجمين وفقاً لتخطيط علوي مقدّس، فيحاول الوصول إلى كنه ذلك بالحلم حلاً لكشف المعنى المنشود لديه في السعادة والهناء.
هذه الروح المعراجية، كما قلت، نتلمسها جهراً وسراً في نصوص حسين السياب، وهي تمثّل توقه الدائم في الوصول إلى أقصى حالات العشق المنغمر في رؤية خيالية سماوية يحاول إمساكها وترويضها للوصول إلى معاني الجمال الحقيقي الذي ينشده مع حبيبته، فيقول مخاطباً يائساً (ما زال الطريق إليك عميقاً/ لا مساحة لغيرك في الفؤاد)، وفي نصّ (مواسم الشغف) ليؤكد موقفه أزاء حبيبته، بقوله (تلك المرأة أخرجتني من كوني تاهت مسافات الانتظار وما زالت قناديل الأحلام تنير السماء) إن إشارة قناديل الأحلام العميقة الواقفة في مساحة لأنثاه حصراً في الفؤاد تأكيد على هذا التوق العميق في الإحساس بجوهر الرؤية السامية والبحث فيه عن خلاص دائم، فهو محلّق في عوالم سماوات يستل من شساعة آفاقها غير المحددة عوالمه المخلقة للأنثى المعشوقة بوصفها معنى خالداً لا ينتمي إلى سيرورة الطين البشري.
ونتلمس ذلك أيضاً في نص (نسمات على ظل القمر) بقوله: (تلك المرأة جاءت من سلالة الضوء كطيفٍ عابر/ جاءت ترتدي الوقت وتطوي شوارع الرحيل) وهو هنا اقترب بوضوح من صورة أنثاه المتخيلة المتخلقة في علياء أحلامه ويزيد صورتها وضوحاً وروعة بقوله في نص آخر (على طرف غيمة رقصنا/ حملتك بين يديّ ومشيتُ أحلم كمن يستيقظ على سرير الدهشة) فبهذه اللغة السهلة المأنوسة الجميلة وبتواصلية متدفقة وانزياحات لغوية مميزة فتل الشاعر حسين السياب حبالاً جمالية تواصلية بين واقع عاشه بقسوة وواقع متعال شكلت الأنثى آصرة بنيانه في مخيلة جامحة منطلقة من ذهن راءٍ ذكي فيحيطها بأطر واقع جديد تبتعد فيه عن جدواها الترابية الزائلة إلى جوهر خالد متجدد، ومن هنا يمكننا القول إنّ نصوص المجموعة شكّلت، وفق ما قلنا سابقاً، برؤيتين متصارعتين مختلفتين في الجوهر والمصير، ولكنهما ما زالتا باقيتين تؤديان كينونة واحدة تتنامى فكرياً وجمالياً لكنّ انهماكهما في صنع الجمال لا يصب في محور واحد حتى غدت الرؤية المعراجية للأنثى عند حسين السياب رابطة جمالية منبثقة من عقابيل واقع عاشه وواقع يأمل أن يعيشه فيصنع به واقعاً منسجماً مع ذاته بخيال خصب، وصولاً إلى واقع جمالي التكوين والدهشة
والابهار.