حين تصبح السياسة بوصلةً للفنون

ثقافة 2024/03/06
...

صفاء ذياب

 غير أنَّ لتسعينيات القرن العشرين شأناً آخر حينما انطلقت جائزة الشارقة للإبداع؛ التي كانت معنية بالشباب دون الـ35 عاماً، إذ تبنّت موضوعات محدّدة في الدراسات النقدية التي تخصّصها الجائزة كلّ عام، فبدأ الشباب بالكتابة بالموضوعات التي تحدّدها الجائزة، فضلاً عن تبنّيها للقصيدة الكلاسيكية والقصص القصيرة والروايات التي تقترب من الواقعية أكثر من غيرها.
إلاَّ أنَّ للجائزة العالمية للرواية العربية؛ أو ما عرف بجائزة البوكر، خطاباً آخر، فقيمتها المادية، وانتشار الرواية الفائزة، وجّهت الكتّاب عموماً، إن كانوا روائيين أو قصّاصين أو شعراء أو حتى نقّاداً لكتابة الرواية، حتَّى إن كانوا لم يخوضوا في هذا العالم، فصدرت روايات عربية من الصعب إحصاؤها، فضلاً عن الروايات العراقية التي تجاوزت خلال سنوات قليلة الألف رواية، لاسيّما بعد حصول رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي على الجائزة.
ومثلما فعلت البوكر، سارت جائزة كتارا، بقيمتها المادية المهولة، التي تجاوزت 200 ألف دولار للرواية المطبوعة، فضلاً عن 30 إلى 50 ألف دولار للرواية المخطوطة، فأصبحت كتابة الرواية هوساً لم تحمد عقباه، بعد أن صدرت أعمال من الصعب تسميتها بالأدب.
ولا ننسى جائزة الملتقى للقصة القصيرة في الكويت التي غيّرت من توجيه الكتاب من الرواية إلى القصة القصيرة.
وهكذا تعدّدت خطوات المؤسسات الثقافية في توجيه الأدب العربي، فضلاً عن جوائز أخرى لا تقل أهمية، لكنَّها ليست ذات قيمة مادية كبيرة مثل سابقاتها، فأهمل الشعر- على سبيل المثال- مقابل السرد، وبقي النقد حائراً في من يتبنّاه، ما عدا نقد الرواية الذي تبنّته كتارا في الوقت نفسه، حتَّى برزت جوائز أخرى، مثل جائزة الشيخ زايد، وجائزة حمد للترجمة، وغيرها الكثير.
ومثلما هناك سمات مهمّة لهذه الجوائز التي أثرت الإبداع العربي، غير أنَّ سلبيات وجودها كانت أكبر بكثير من وجودها نفسه، فأصبح عدد كبير من الكتّاب يكتبون من أجل الجائزة، وما تريده مع كلِّ دورة، مبتعدين عن الإبداع الذي كان يعدُّ الأول في هموم الكتابة.
فبعد هذا كلّه، هل يمكن للمؤسسة الثقافية؛ الرسمية وغير الرسمية، أن تسهم بتوجيه الثقافة، وخلق بنية ثقافية جديدة من خلال دعم هذه المؤسسة أو تلك لخطاب ما.. مثلما فعلت كتارا، أو جائزة البوكر، وقبلها جائزة الشارقة للشباب؟

تجاوز الراهن
يشير الدكتور علي حداد إلى أنَّه لا خلاف على أنَّ الجهد الثقافي عمل تعاضدي تنهض به جهات عديدة، يكون المثقف المنتج أساسه بما يقدّمه من منجزات وعيه الذاتي مستجيباً لفواعل وجوده المجتمعي أو ما يوصف بأنَّه (هابتوس) يرتكن إليه وتتمثّله قدراته. وحين يخرجه إلى العلن، حيث متلقّيه، فإنَّ وسائط النشر والتوزيع والترويج عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية هي مالتي تنهض بذلك وتروّج له كي يصل إلى قارئه.
غير أنَّ دور تلك المؤسسات لا ينقطع عند أن تكون وسيطاً لا فاعلية له في الفضاء الثقافي. إنَّ دورها يتجاوز الوساطة ويتسع لمجمل الفعّاليات الثقافية التي يمكنها أن تقدّمها بمجاورة مقاصدها المحدّدة لها.
ويضيف: نعم، بإمكان تلك المؤسّسات أن تصبح قوّة ثقافية فاعلة ومؤثّرة، تمدُّ الوسط الذي تتوجّه إليه بما ينمّيه ويغنيه، ويرتقي بمضامينه ويطوّرها إذا أدرك القائمون عليها طبيعة المهام الثقافية التي تناط بهم وبمؤسّساتهم وفاعليتها النوعية، وخرجوا من ربقة الروتين الإداري وبيروقراطية المسعى، واشتراطات الربح والخسارة، ورغبوا في أن تكون لمؤسّساتهم الثقافية مكانة مجتمعية مؤثّرة، ونظروا إلى العمل الثقافي كونه عملاً إبداعياً نبيل المقاصد، وخطاباً مستنيراً يتجاوز الراهن متطلّعاً نحو المستقبل، تحكمه مساعٍ صادقة النوايا غايتها بناء الإنسان وعياً وذائقة، أكثر من أيِّ مطمح آخر.
ولا شك في أنَّ مثل هذا الدور يتطلّب أن تنال تلك المؤسّسات دعماً مادياً وافياً وقيادات إدارية تدرك قيمة الثقافة والإبداع ودورهما في تأكيد الهوية الوطنية وترسيخها.

توجيه البوصلة
في حين يرى الشاعر المصري محمد الشحات محمد أنَّ للمؤسسة الثقافية، رسمية كانت أو غير رسمية، دورها الكبير في دعم أيِّ خطاب، شرط الالتزام باستراتيجية فعّالة في مناقشة الخطط واختيار الكفاءات واتخاذ القرارات الجادّة، التي تواجه المتلاعبين و(الشللية)، فتكتسب المؤسّسة الثقة، ويستطيع القائمون عليها توجيه البوصلة نحو الإصلاح والصالح العام، بل وخلق تربة خصبة لبنية ثقافية جديدة، أو حتَّى لتنشيط الكلاسيكي القديم بصورة مستحدثة، تواكب العصر، وبكلِّ اطمئنان؛ وبالتالي يمكن للمؤسّسة دعم خطاب ما، لاسيّما إذا كان هناك تنسيق بين الظهيرين الرسمي والأهلي، ولدينا الجنس الأدبي الجديد: القصّة الشاعرة، حيث بدأ دعم هذا الفن من خلال التنسيق بين الهيئة العامة لقصور الثقافة وجمعية دار النسر الأدبية وعدد من الجمعيات والمؤسّسات الأهلية والنقابة العامة لاتحاد كتّاب مصر، وتمَّ انعقاد المؤتمرات والحلقات الفكرية، مع طرح الفكرة والنصوص والتنظير في الإعلام والمجلات المُحكمة، وإدراج هذا الفن ضمن مقرّرات بعض الكلّيات، وكذلك تسجيل عدد من الرسائل العلمية (ماجستير، دكتوراه) حول فن القصّة الشاعرة، ومن ثَمَّ أنَّ هناك مؤسّسات عقدت مسابقات في الشعر والرواية وغيرها بإغراء مالي كبير للفائزين، فاتجهت الأنظار إليها، مثل جائزة الشارقة، والبوكر وكتارا، وكان دعم القصيدة الفصحى أو الشكل العمودي على وجه الخصوص كبيراً، وفي المقابل اتجه كثير من الشعراء إلى كتابة الرواية، كما شجّعت بعض المؤسسات الخاصة الكتابة بالعامية مثل مسابقة ساويرس، ما دفع بعض المنافسين في دور نشر إلى إعلان ما يسمّى حركة العامية الجديدة، وإن كانت بلا تقنيات جديدة في الكتابة ولا حتَّى نظرية مختلفة، وقد يدفع الخرج بعضهم للمشاركة فيها، على الرغم من عدم اقتناعهم، ثمَّ اتجهت مؤسّسات خاصة أخرى ودور نشر إلى تشجيع كتابة الخاطرة، وهكذا تستطيع المؤسّسة التوجيه والدعم، وإن كان لا يبقى إلاَّ ما ينفع الناس.

حاجة الثقافة
ويؤكّد الدكتور محمد عبد الرضا الكناني أنَّ على أيِّ مجتمع يريد أن ينطلق بمشروع نهضوي حضاري يحدث تغييراً بنائيّاً في جوهره أن يبدأ من الثقافة؛ لأنَّها بنيته العميقة التي تتجسّد ظاهراً في سلوك أفراده. ومن أجل ذلك لا بدَّ أن تتحوّل فيه الثقافة إلى صناعة وطنية تُسهم بها المؤسّستان الرسمية وغير الرسمية.
ويفسّر الكناني هاتين المؤسستين بقوله: الرسمية متمثّلة بالسلطة بأن تعتقد أنَّ الثقافة حاجة أساسية للمواطن لا تقل أهمّية عن حاجاته الأساسية الأخرى، فتكون مسؤولة عن تهيئة (زاده الثقافي) مثلما هي مسؤولة عن تهيئة زاده الغذائي.
وغير الرسمية متمثّلة بالمثقّف في أن يتخلّى عن نرجسيته المفرطة وطموحه الذاتي، وينتقل إلى فضاء أرحب تكون فيه الثقافة بأفقها الشامل هاجسه الأوّل وهمّه اليومي، وأن يكون جزءاً من الحلّ لا من المشكلة، بأن يكون فاعلاً لا (منفعلاً).

قوى ناعمة
ويبين القاص والناقد الأردني موسى إبراهيم أبو رياش أنَّ المؤسّسات الثقافية بشكل عام، من القوى الناعمة التي تهدف للتغيير بسلاح الثقافة، وهذا التغيير يكون بطيئاً جداً ويحتاج إلى وقت طويل حتَّى يُلمس تأثيره.
ولا شكَّ في أنَّ هذه المؤسسات ولاسيّما التي تتمتّع بسلطة وقوّة مالية وإعلامية، تسعى لتوجيه الثقافة في اتجاه محدّد، يخدم جهات معيّنة؛ لخلق بنية ثقافية جديدة أو مختلفة عن السائد.
السلطات كلّها على اختلافها، توظّف الثقافة من خلال مؤسّسات أو منابر ثقافية، لخدمة أغراضها، وتحقيق أهدافها، التي يكون ظاهرها خدمة الثقافة بشكل عام، ولكنَّها في الحقيقة توجّه هذه الثقافة في مسارات معيّنة تصبُّ في النهاية في مصلحة هذه الجهات، أو في الأقل لا تتعارض معها.
إنَّ خدمة الثقافة من أجل الثقافة، لم تعد موجودة حسب ظنّي، وقد تكون شعاراً للاستهلاك أكثر منه واقعاً عمليّاً؛ فلكلِّ مؤسّسة أجندة معلنة وخفيّة، ولها طرقها وأساليبها وخططها التنفيذية لتحقّق ما تريد.
وعلى أيِّ حال، فإنَّ من حق أيّة جهة أن توظّف الثقافة وتوجّهها لخدمتها، على اعتبار أنَّ الثقافة من أهم أدوات التأثير على المدى البعيد، والأكثر تجذّراً. وبما أنَّ الثقافة تحتاج إلى مال لتقوم بدورها المنشود، فصاحب المال أحقّ بثمارها، وكلَّما كانت الجهات الداعمة أكثر إنسانية وعدالة ونظافة، كانت توجّهاتها جميلة وراقية وداعمة للحرّيات والحقوق. ولكنَّ الخوف أن تنحرف بعض الجهات كثيراً، فتشوّه الثقافة، ما قد يؤدّي إلى تأثيرات سلبية، تشوّش وتفسد الذائقة، وتمسخ الثقافة الحقيقية.

توجيه الإبداع
وتكشف الشاعرة والباحثة المغربية فاطمة بوهراكة عن أنَّ المؤسّسات الثقافية تلعب دوراً مهمّاً في دعم سيرورة الثقافة العربية وانتعاشها على المستويات كلّها، فلها الفضل الكبير في تقوية مجال أدبي عن آخر وأكبر دليل على ذلك أنَّ الرواية اليوم سحبت من الشعر بريقه وبساطه بسبب وجود مؤسّسات كبرى ترعى أضخم المسابقات وتزكّيها، فضلاً عن وجود دور نشر تقوّي هذا المسار من خلال طباعة وتوزيع هذا المنتوج الأدبي عربيّاً على حساب بقية الإبداعات الفكرية الأخرى.
ومن خلال هذه الممارسات المؤثّرة تستطيع المؤسّسة الثقافية سواء كانت رسمية أو شبه رسمية التحكّم وتوجيه دفّة الإبداع بشكل خاص؛ والثقافة بشكل عام. ما يجعلها تؤثّر إيجاباً أو سلباً في محيطها الخاص من أطر ومسيّرين لهذا المجال أو بشكل عام في المجتمع الذي يستقبل ما يروّج له عبر قنوات هذه المؤسّسات التي تختار لنفسها منهجاً خاصاً وتخطُّ أولويات تنعكس مباشرة على مسار المبدع العربي الذي شهد هجرة الأقلام الشاعرة باتجاه الرواية التي دعمتها المؤسّسات بشكل واضح وملموس.