إشكاليَّة عمر نوح الطويل
شاكر الغزي
القول بأنَّ عمر النبيّ نوح 950 سنة خطأ فادح!.
وأمّا نسبة ذلك القول إلى القرآن الكريم فبهتان وكذب صُراح! فالقرآن لم يصرّح به إطلاقاً، فكلُّ ما قاله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)، العنكبوت: 14. وجليٌّ لمن يعي الكلام العربيّ أنَّ القرآن صرّح بأمرين:
أولاً: أنَّ المنصوص عليه هنا مدّة اللبث (في قومه)، وليس عمر نوح.
ثانياً: أنَّ المدة ألف سنة إلّا خمسين عاماً، وليست 950 سنة!.
وبشأن أولاً؛ فأول ما يتبادر إلى الذهن من الآية أنَّ مدّة اللَّبْثِ أولّها بعثته نبيّاً (الإرسال) وآخر أمدها حدوث الطوفان (فأخذهم الطوفان)، وهي بلا شكّ ليست كلَّ عمر نوح؛ إذ عاش زمناً قبل أن يُبعث، ثمّ عاش زمناً آخر بعد حادثة الطوفان.
وفي المرويات التفسيرية، أنّه بُعث في سنّ الأربعين، وعاش بعد الطوفان ستّين سنة، فيكون عمره 1050 سنة! وقيل: بُعث وعمره 350 سنة، وعاش بعد الطوفان 350 سنة؛ فيكون عمره 1650 سنة! وقيل: عمره 1400 سنة، وقيل: 1700 سنة! ورغم عدم تسليمنا بهذه الأرقام الأسطورية، إلّا أنَّ الغاية من إيرادها التدليل على أنَّ عمر النبي نوح أكثر من المدة المذكورة.
وبشأن ثانياً، وهو الأهمُّ، فالقرآن لم يستعمل تعبير (ألفَ سنةٍ إلّا خمسينَ عاماً) اعتباطاً؛ حتّى يقال إنه أراد 950 سنةً، بل هو تعبير مقصود بكلِّ ما في القصديّة من معنى. ومن الخطأ البدائيّ إجراء عملية الطرح في هذه الحالة؛ نظراً لاختلاف المعدود (اختلاف تمييز العدد بين (سنةً) و(عاماً) لا يسمح بطرح الخمسين من الألف بالضرورة).
بتعبير آخر:
إنَّ مدّة لبث نوح لا تساوي 950 سنة بداهةً؛ بسبب انقطاع الاستثناء، مثلما أنَّ استثناء برتقالة واحدة من خمس تفّاحات لا ينتج عنه أربع تفّاحات بداهةً! ومثلما أنَّ توقيت الساعة الحادية عشرة إلا خمس دقائق، لا يعني أنها السادسة إطلاقاً؛ إذ لا يصحّ طرح الدقائق الخمس من الساعات الإحدى عشرة لاختلاف المعدود (دقيقة، ساعة)، أو لاختلاف نظامي العدّ بين الدقائق والساعات.
وهذا هو لبّ الفرضية التي نطرحها هنا، وهي اختلاف المعدود، بمعنى أنَّ العام غير السنة. وليس بصحيح ما قاله الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: أُوثِرَ تمييز ألف بـ(سنةً) لطلب الخفّة، ومُيِّز خمسينَ بلفظِ (عاماً)؛ لئلّا يُكرَّر لفظ سنة!. وكذلك، فإنَّ قول الزمخشري في الكشّاف عن اختلاف التمييزين مستغرب أيضاً! يقول الزمخشري: إنما خالف بين اللفظين فذكر في الأول السنة وفي الثاني العام، تجنُّباً للتكرار الذي لا يحمدــ يقصد في البلاغةــ إلا لقصد تفخيم أو تعظيم. وإذا كان القصد هو الذي يُراعى من قبل المتكلِّم في حال تكراره لتمييز العدد لأجل التفخيم أو التهويل ــ بحسب الزمخشري ــ فما الذي يُدريه أنَّ اختلاف تمييز العدد غير مُراعًى لذاته في قصد المتكلِّم؟!.
واللَّبْثُ: أصلٌ واحد يدلُّ على التمكُّث. وهو تارةً يدلُّ على زمان فقط ــ وإنْ لم يذكر ــ كقوله تعالى: (فَمَا لَبِثَ أن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، هود: 69، وفي أكثر من 14 آية، ورد الفعل (لبثَ) متبوعاً بمدّة زمنية، كقوله تعالى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا)، كهف: 12، وقوله: (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ)، روم: 55، وقوله: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ)، مؤمنين: 113.
وفي هذا التركيب ــ كما هو مطّرد في 14 آية ــ يلاحظ عدم إدراك اللابث لمدّة اللبث الحقيقية.
كما أنَّ في قوله تعالى: (فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ) إشارة صريحة إلى وجود أكثر من عادٍّ واحد، والجمع هنا يقتضي اختلاف أسلوب (نظام) العدّ، لا الكثرة؛ لأنَّ العادّين وإن كثروا فهم بمثابة عادّ واحد إذا اعتمدوا الأسلوب ذاته.
وتارةً يدلُّ على المكان والزمان معاً، فيتعدّى بحرف الجرّ (في)، كقوله تعالى: (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)، يوسف: 42، وقوله: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، كهف: 25، وقوله: (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ): صافّات: 144.
وقد وردت كلمة (لبث) ومشتقّاتها 30 مرّة في القرآن الكريم، في عشرٍ منها كان متعدّياً بحرف الجرّ (في)، بعضها يدلّ على المكان صراحةً كالآيات السابقة، وبعضها قد يدلّ عليه تقديراً، كقوله تعالى: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)، طه: 40، وقوله: (لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ)، سبأ: 14، وبعضها لا يكون فيها ما بعد حرف الجر دالّاً على مكان، كقوله تعالى: (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، شعراء: 18، وقوله: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ)، يونس: 16، وكآية نوح: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ)، عنكبوت: 14؛ فالظاهر أنَّ استعمال حرف الجرّ (في) هنا ليس بمعنى الظرفية المكانية، وإنّما المقصود: في عدّ قومه وحسابهم؛ ممّا يُفهَم منه أنَّ لقوم نوح نظام عدّ خاصاً للسنين والمُدد، فلعلّهم كما قال المعرّي كانوا يعدّون دورة الهلال سنةً:
وَاِدَّعوا لِلمُعَمِّرينَ أُموراً لَستُ أَدري ما هُنَّ في المَشهورِ
أَتَراهُم فيما تَقَضّى مِنَ الأَيـ ــّام، عَدّوا سَنيِّهُم بِالشُهورِ
كُلَّما لاحَ لِلعُيونِ هِلالٌ كانَ حَولاً لَدَيهِمُ في الدُهورِ
فتكون الألف سنة في حسابهم ــ على هذا الفرض ــ ألفَ شهرٍ، وهي تعادل في حسابنا أكثر من 83 عاماً بقليل، وإذا استثنينا منها خمسين عاماً، كانت مدّة لبث نوح في قومه 33 عاماً! ذلك أنَّ مفهوم السنة، والذي نعرفه الآن ونحدّده بـ(365,25) يوماً، ليس بثابتٍ في جميع الحضارات وعلى مدى الأزمان، فالسنة البابلية مثلاً كانت 360 يوماً، والسنة السومرية فكانت 6 أشهر فقط من أشهرنا المعاصرة.
ولعلّ المفتاح الأهم في حلّ هذه الإشكالية، أمران، الأول هو عبارة (فيهم: في قومه)؛ فظرفية الحرف (في) ليست مكانية، وإنما للمقايسة وإن لم تكن للمفاضلة بين سابق ولاحق، كما نقول: في فرنسا، لا يسمح بلبس الحجاب في الجامعات، فحرف الجر (في) الأول ليس للظرفية المكانية وإنما يعني وفقاً لقوانين فرنسا، وكذلك قولنا: في كرة القدم، لا يجوز كذا، والموجة في الفيزياء تعني كذا، فالمقصود في هذه الأمثلة، طبقاً لقوانين وأنظمة ومقاييس كذا، ومنه هذه الآية، فالمراد أنَّ الألف سنة هي مقدار مدة لبث نوح (في قومه) أي في نظام عدّ قومه وطريقة حسابهم للسنين والأيّام.
والأمر الآخر المتعلّق بعبارة (في قومه) هو الإقرار بكونهم قوم نوح، وهذا يقتضي أنَّ الجيل الذي بعث إليهم نوح كلّهم عاشوا معه طيلة هذه المدّة، وإلّا لو عاصر نوح أجيالاً متعاقبة منهم لما صحّ وصفهم بكونهم قوم نوح، فيا ترى أيّ جيل سيكونون هم قومه، ومن جهة ثانية، فإنّ الجيل الأول الذي أنذره نوح سيكون قد انقضى واندثر، وسيكون الطوفان عذاباً واقعاً على آخر جيل، وسيكون مؤاخذاً بجريرة قوم سابقين، وهذا ليس من العدل في شيء، ولا من بلاغته الكلام وبيانه في شيء. وناتج ذلك أنَّ مدّة عمر نوح (ومدة لبثه) في قومه كانت طبيعية ممّا اعتاده الناس آنذاك، وليست خارج المألوف.
وأمّا المفتاح الثاني، فهو المقارنة التاريخية بين الوجود التاريخي التخمينيّ للنبيّ نوح والتاريخ التقديريّ لحادثة الطوفان السومريّ من جهة، وبين قصة النبي نوح بكلّ تفاصيلها القرآنية والحديثية وبين أسطورة الطوفان المسمارية ـــ ولا سيما السومرية ـــ يمكن أن نستنتج أنَّ بطل الطوفان السومري زيوسُدرا (ziusudra)، أو أُوتنَپشتِم (utnapishtim) حسب التسمية البابلية، هو نفسه النبي نوح (Noah) بحسب الاسم الأَديانيّ (التوراتي، القرآني).
يتكوّن اسم زيوسُدرا من ثلاثة مقاطع سومرية بحسب الدكتور فاضل عبدالواحد هي: زي (zi): الحياة، يو (u4): يوم، سُدْ (sud): طال، أَطال؛ وعنده، أنَّ الاسم يعني: الذي جعل الحياة طويلةً؛ كنايةً عن خلوده. وعند الآخرين له ترجمات كثيرة، منها: الحياة لأيّام طوالٍ، الذي طالت أيّام حياته، ذو الحياة الطويلة، صاحب العمر الطويل، الحيُّ لأيّام طويلةٍ، الخالد، مع ملاحظة أنَّ المقطع (ra) يعني: لِـ.
والأصوب فيما أرى أنَّ اسم زيوسُدرا (zi-ud-sud-ra2) يتكوّن من أربعة مقاطع؛ ويعني: لحياةٍ أبدية، أو الحيُّ للأبد. وهذا ينسجم مع تفسير د.فاضل عبدالواحد بأنّه كناية عن الخلود.
يُوصف زيوسُدرا بأنّه كان تقيّاً، ورعاً، متواضعاً، يكثر من الدعاء والتضرُّع، وكان على الدوام خاشعاً، متخوّفاً من الإله. وبحسب قائمة الملوك السومرية، والتي تعرف بأخبار السلالات السومرية، يُذكر بوصفه آخر ملك قبل الطوفان في مدينة شُرُّوباك (تلّ فاره) 64 كم جنوب شرقي مدينة الديوانية، وقد حكم لمدّة عشر سارات، والسَّار هو وحدة قياس زمنية سومرية تعادل (3600) ويلاحظ أنَّ المعدود غير مذكور! ولكنَّ الشُّرّاح والمترجمين اعتبروا أنّه (سنة)؛ فالسَّار الواحد عندهم يساوي 3600 سنة! ومن هنا ظهرت فترات الحكم الخيالية للملوك السومريين، وعليه تكون مدة حكم زيوسدرا 36000 سنة.
وهناك من يرى أنَّ السَّار هو السنة؛ فتكون فترة حكم زيوسدرا 10 سنوات. شخصياً، أعتقد أنَّ السار هو السنة السومرية التي هي 6 أشهر فقط! ولذلك فالسَّار يساوي 3600 ساعة. وعليه تكون مدّة حكم زيوسُدرا أكثر بقليل من 4 سنوات حالية! وبالتالي فلا بُدّ من تصحيح مدّة لبث نوح في قومه، والتي هي 33 عاماً، إلى كونها العمر الذي عاشه فيهم منذ ولادته ــ وليس منذ بعثته ــ إلى حين حدوث الطوفان! وأنّ مدّة بعثته فيهم كانت 4 سنوات فقط! بمعنى أنّه بُعث بعمر 29 أو 30 سنة، وبهذا الفهم المغاير ندرك أهمية الاستثناء المنقطع في قوله تعالى (ألفَ سنةٍ إلّا خمسينَ عاماً)؛ لانقطاع ما بعد الطوفان عمّا قبله، فالخمسون عاماً هي ما عاشه بعد الطوفان، والألف سنة في حسابهم ــ 33 عاماً ــ فهي ما عاشه قبله، وأمّا أداة الاستثناء (إلّا) في الآية فهي بمثابة المعادل الموضوعي لحادثة الطوفان (ثمّ جاء الطوفان) التي فصلت بين عهدين في إثبات الملوك السومريين: عهد ما قبل الطوفان، وعهد ما بعد الطوفان. وما جاء في المرويات التفسيرية من أنَّ النبيّ نوح بُعث في سنّ الأربعين، وعاش بعد الطوفان ستّين سنة، فيمكن أن نعيد فهمه باعتبار أنَّ سن الأربعين لا يعني أنّه بلغ 40 سنة، بل الأصحّ أن تعني أول دخوله في سنّ الأربعين وذلك يبدأ من عمر 31 سنة؛ فلعلّ بعثته كانت في آخر الثلاثين من عمره، ولذلك يقال لمن يبلغ 40 سنة: أتمَّ الأربعين! وأمّا سنيّ عيشه بعد الطوفان فربّما هو اختلاف الروايات، أو ربّما أنَّ المقصود أول الستين، فعبارة خمسين عاماً المستثناة تعني أنه عاش خمسين عاماً على التمام، وابتدأ في الدخول في أوّل الستين.