التاريخ الإسلامي المبكّر في الوثائق السريانيَّة
كامل داود
أثارت مدرسة ( المراجعين أو المنقحين) الاستشراقيَّة جدلاً واسعاً منذ تأسيسها في سبعينيات القرن المنصرم، وقدّم مؤسسوها سرديات تاريخيَّة تتعارض مع الكثير من مسلّمات التاريخ الإسلامي، أذ حسبوا أنَّ هذه المدونات كُتبت بعد وفاة النبي محمد (ص) بنحو 150 إلى 250 عاماً، فلجؤوا إلى المنهج النقدي التاريخي المعزز بالاركيولوجيا، متوسلين دراسة النقوش والعملات المعدنية والوثائق التاريخية الأصلية. بعدها توالت مؤلفات هذه المدرسة بالظهور، فأصدر مؤسسها (جون وانسبرو 1928ـ 2002) كتابه الأول “دراسات قرآنية” عام 1977 وتبعه بثلاثة كتب أخرى في نفس المضمار، تشير إلى أنَّ الإسلام لم ينشأ كدين مستقل وإنما كان نتيجة صراع بين ديانات أخرى، وفي نفس العام أصدرت تلميذته (باتريشا كرون 1945ـ 2015) كتابها “الهاجريون.. صناعة العالم الإسلامي” الذي لاقى نقاشاً واسعاً بين مؤيد ومعارض عند ترجمته للعربية 1999 وكان كتابها هذا بالاشتراك مع المؤرخ (مايكل كوك 1940) الذي أصدر، هو الآخر، كتابه (محمد)، بعدها اتسعت دائرة الإصدارات التي تدور حول قطب التشكيك بما وصلنا من أسفار لم تكتب قبل العصر العباسي بأعلى تقدير.
والواقع أنَّ هذه الطروحات المتطرفة والمغالية في التشكيك، لم تخلُ من جانب إيجابي ومفيد، فقد حفزت الكثير من المتخصصين في التاريخ الإسلامي (عرباً وأجانب) لتمحيصها باستعمال نفس أدواتها البحثية، منها كتاب (حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة) الذي صدر عام 2015 لمؤلفه الأميركي مايكل فيليب بن، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة ستاندفورد في ولاية ماستشوستس الأميركية، وصدر بالترجمة العربية عن دار الجليس في الكويت 2022، تولى ترجمته عبد المقصود عبد الكريم (1956) وهو شاعر ومترجم وطبيب نفسي مصري، وهذا ما يفسر اختياره عنوان الكتاب بصياغة أدبية وليست بحثية، وكان الأجدر أن يتضمن العنوان التاريخ الإسلامي المبكر في الوثائق السريانية 630م ـ 750م.
إنَّ هذا الكتاب يضم ثمانية وعشرين نصاً باللغة السريانية، كتبت بعد أقل من عقد على وفاة النبي محمد (ص) 632م، حتى بداية الحكم العباسي عام 750م، مؤلفوها عاشوا في مناطق ضمن تركيا والعراق وإيران وبلاد الشام، تشمل قرارات كنسية، سجلات الكوارث وسجلات الحكام والملوك، مناظرات عقائدية، كتابة ذكريات على أوراق الكتب ورؤى شعرية وغيرها، تُصنَّف جميعها ضمن المؤلفات التاريخية التي تعود إلى مصنفات ما قبل الحداثة، وتحمل هذه الميزة جنبة معرفية مهمة، لأنَّ المؤرخين السريان القدامى لم يحظوا باهتمام كبير من قبل المؤرخين العرب، لأنهم لم يكتبوا بغير السريانية، وللعلة نفسها اختفت كتاباتهم عند المؤرخين المسيحيين الذين كتبوا باللاتينية واليونانية.
تعود هذه الكتابات إلى الفترة التي عاد فيها الإمبراطور الروماني هرقل منتصراً على الساسانيين 630م، بعد أن زحف بجيشه من أرمينيا حتى المدائن (عاصمة الفرس) وقتل كسرى الثاني وما لبث ابنه أن عقد صلحاً مع الإمبراطور البيزنطي وفيه تنازل الفرس عن كل ما غنموه في احتلالهم لبيت المقدس الذي استمر أكثر من خمسة عشر عاماً، من تلك الغنائم المعادة (الصليب) الذي شهد آلام السيد المسيح، ودخل هرقل بيت المقدس بحفل مهيب، وبإدارته توحدت مملكة البيزنطيين، وهي نفس السنة التي دخل النبي محمد فيها فاتحاً لمكة، ولم تمضِ سوى ست سنوات من هذا التاريخ إلا واجتاح المسلمون بلاد الشام وهزمت الجيوش الرومانية بمعركة اليرموك، وأطلق كلمته الشهيرة “وداعاً سوريا”.
كان السريان يقطنون تلك الأراضي، وشهدوا معارك المسلمين ودخولهم بلاد الشام، لذا فإنَّ أهمية سجلاتهم تعود إلى كونهم المسيحيين الأوائل الذين التقوا المسلمين، وكانت لهم انطباعات خاصة بهم تجاه المسلمين، ووقعوا تحت حكم المسلمين بعد وفاة النبي محمد (ص) عكس البيزنطيين واللاتين، وقد عمل السريان في التشكيلات الإدارية للدولة الإسلامية إلى زمن عبد الملك بن مروان، إذ بدأ حملة للتعريب وتحولت اللغة السريانية إلى لغة شعائرية.
السريان تعاملوا مع الفاتحين لصالح مذهبهم ضد المذهب الآخر (المذهب الملكاني) الذي ذاقوا الأمرين في كنفه، وجاء ذكر الهاجريين لأول مرة (العرب الذين منحهم الرب السيطرة على العالم في هذا الوقت).
يرجع المختصون بالكتابات القديمة، الذين درسوا هذه الوثائق، أول ذكر لاسم النبي محمد إلى 636، في كتابة على بطانة نسخة من الكتاب المقدس بدون غلاف، كتب مقتنيه بضعة سطور ذاكراً فيها معركة اليرموك، وقد وردت كلمة محمد واضحة المعالم، على أنَّ جيوشه انتصرت على جيوش هرقل، ويبدو أنَّ كاتب تلك السطور كان شاهداً على المعركة، لأنه يقول “رأينا”، أنَّ تلك الصفحة لها أهمية كبيرة عند علماء المخطوطات وقد أطلقوا عليها اسم (تقرير637م) صحيح ليس هناك نصوص قبل وفاة النبي محمد632م. لكن بالمقابل نرى أنَّ أغلب النصوص المسيحية الباقية كتبت بعد منتصف القرن الثاني الميلادي وهي لا تتجاوز الخمس صفحات. إنَّ هذه الوثائق السريانية كتبت قبل الثورة العباسية 750م، منها مخطوطات تحدثت عن بداية التوسع الإسلامي (الهاجريين) بشكل مقتضب جداً، لأنَّ كاتبيها لم تكن لديهم فكرة عن أهمية هذه الحركات الاجتماعية مستقبلاً.
ومن تلك النصوص ما يحمل اللوم على المسيحيين الذين أسلموا للتخلص من الجزية، ونصوص أخرى على شكل أسفار رؤيا بقوالب شعرية، أشبه بكتب الملاحم والفتن، تتحدث عن الرب الذي سيعاقب الرومان، لأنهم اضطهدوا المسيحيين، وسيكون عقابهم على أيدي العرب، أبناء هاجر، ثم يعاقب العرب بظهور يأجوج ومأجوج، ويأتي المسيح الدجال وتحدث نهاية العالم ويحل يوم القيامة. ومنها أجوبة فقهية مسيحية أشبه (بالرسائل العملية) فيها إجابات عن تنظيم العلاقات الدينية، كما في رسائل يعقوب الرهاوي 708م.
وفي صفحة باقية من مخطوطة للعهد الجديد كتبت عام 682م، يذكر فيها التاريخ الهجري، وهذه إشارة مهمة، كذلك أحد أقدم استخدامات مفردة (الهاجريون) التي تعني العرب آنذاك، وهذا النص مكتوب على الورقة الأخيرة على هذا النحو (اكتمل سفر العهد الجديد هذا في سنة 993 اليونانية، وسنة 63ه وفقاً لسنة الهاجريين أبناء إسماعيل ابن هاجر وإبراهيم.
أما موضوع مكة (كنى عنها ببيت الله) فقد جاء في كتاب النقاط البارزة للراهب السرياني “يوحنا بن الفنكي” الذي عاش في زمن عبد الملك بن مروان، أنَّ الرب سرعان ما أخذ “يزيد” وظهر أحد العرب اسمه الزبير، أعلن أنه خرج متحمساً إلى بيت الله، وصل محرابهم في مكان ما في الجنوب وأقام هناك... هزموه وأحرقوا محرابهم بالنار 687م 67ه، كما هو معروف أنَّ لمدرسة (المنقحين أو المراجعين) رأياً آخر بمكان مكة، وقد فرضوا أنه في البتراء شمال المدينة المنورة.
وفي السجل المسمى (سجل 705م) الذي كتب في العصر الأموي، ترد قائمة بأسماء من حكم العرب من محمد إلى الوليد بن عبد الملك ويستثني فترة حكم الإمام علي بحجة استعار الحرب الأهلية.
تضم هذه الوثائق السريانية مناظرتين، الأولى بين عامل عمر بن الخطاب على حمص، تصفه المناظرة بأمير الهاجريين، وتسمى مناظرة يوحنا والأمير، تدور حول طبيعة السيد المسيح الناسوتية واللاهوتية، أما المناظرة الثانية المسماة “مناظرة بيت حلي” فقد جرت بين أحد الرهبان في دير يعرف ببيت حلي في العراق، وبين عربي من تلك التخوم، المناظرتان تشيران إلى بداية الحوار بين الملتين، ويفهم منهما أنَّ مصطلح (المسلمين) لم يستعمل بعد من قبل المسيحيين قبل العصر العباسي، بل كانت مفردتا الهاجريين والعرب شائعتين في كتاباتهم.
إنَّ هذه الوثائق الثماني والعشرين، التي ضمها كتاب “حين التقى المسيحيون بالمسلمين أول مرة”، تحمل الكثير من المساحة البحثية للدارسين، وكل وثيقة يمكن أن تنفرد بدراسة نافعة في مضمارها، خاصة أنَّ المؤلف قد أرفقها بيبلوغرافيا وافية من المصادر التي يمكن أن تعبد طريق الباحثين للوصول إلى ترصين السرديات العربية التي يعتريها الكثير من مفازات القطع التاريخي.