د. عقيل مهدي يوسف
يطرح الكاتب جمال الجصاني في مذكراته سؤالا مركزياً مفاده ما الذي (يجب) أن نعرفه؟، وهذا ما يحقق اختيار السلوك الأخلاقي وتبين علاقته حسب كانط - بالجانب الفكري. انتهج الجصاني متابعة التطور السياسي والاجتماعي واتجاهاته التناحريَّة المتصاعدة عبر مراحل تاريخيَّة في العراق، ليرصد ممارسات واقعيَّة معقدة في أبعادها التحزبيَّة الجمعيَّة والفرديَّة وتصنيفها في وحدات فرديَّة وجمعيَّة.
مستنداً إلى (تجربته) السياسيَّة لتشخيص الايديولوجية، الاخفاقات والنواقص، وأدانتها، بحثًا عن البدائل الموضوعيَّة الراسخة للتطور الوطني المتكامل، حيث يرصد تاريخه النضالي في مقارعة السلطة بميوله التقدميَّة في الفكر والسلوك، ويدوّن بأنَّ فيكتور هيجو كان يرى أن (فتح مدرسة يعني إغلاق سجن)، فهو يلقي اللوم على المنظومة الايديولوجية الحاكمة التي تنتقم من سلميَّة المواطن وتلقي به إلى التهلكة نتيجة سياستها المنحرفة، وحسب سقراط (لا أحدَ سيئٌ بإرادته)، إنما السوء فيما يتقنع به السياسي، من نزعة استعلائيَّة هوجاء ببعد مرضي (مازوخي) بالتلذذ بآلام الآخرين وتجويعهم ومطاردتهم لغياب معنى (العدالة) في الحياة.
وجعل الشعب يقبع في تلك الدائرة الجهنميَّة المدمّرة المبنيّة على المفاهيم لصراعات عنصريّة وعقائديّة خالية من الضمير الإنساني، ومتمسكة بحرب الجميع ضد الجميع التي حددها هوبز: (حين تغيب قوانين العدالة، يعم الظلم).
أي حين يغيب الاستقلال الذاتي عن المواطن تحت آلهة وثنيّة لحكومات متجبّرة، فهو يعاني من العبودية البدائية المدمّرة لكينونته الإنسانيّة.
يجد القارئ أولا: منذ تصميم الغلاف (لوجه الكاتب) بالأبيض والأسود محاولة التأكيد على فمه، بلون ذهبي، مغاير لونيًا، فهو ينطق بجرأة، عند (محطات) عاشها الكاتب، بشجاعة وطنيّة وإنسانيّة رفيعة، وهو يوقظ ما بين (الماضي العريق، وتصدّعات الحاضر). حين يقارن بين حضارة (دجلة والفرات)، بالواقع الذي بات متصحّرًا، و(طوفانا للأكاذيب)، لمن يتصدر، (المشهد)، لقوافل المهزومين.
يضم (الكتاب، قضايا مهمّة منذ ستينات القرن المنصرم إلى العام 2003)، لأكثر من مئة عنوان فاضحًا، (المسكوت عنه في ظلم الإنسان وكراهية الآخر التي اختصرها التوحيدي بقوله الإنسان أشكل على الإنسان - ص 10، تتسلسل مباحث المذكرات)، بنظرات بانورامية بعد غربة الكاتب عن العراق لعقدين ونصف من السنين، وعودته، الصادمة إلى بلده مستذكرًا مدينة الكوت في جصان، وانتقاله إلى حارات بغدادية وشخصياتها، فهو يتحدث عن سير، لأمثال، خليل أبو الهب، وحسن السريع، وقطار الموت الذي أنقذ السائق عبد عباس المفرجي رهطًا من السجناء السياسيين كادوا يفقدون أرواحهم اختناقًا.
ويتوقف عند عزيز محمد سكرتير الحزب الشيوعي وتصريحه (سنبني الاشتراكية معًا مع حلفائنا) ويقف مفتخرًا بالمعلّم (عبد الرحمن القصاب الذي استقطب في مدينة الموصل، الشيوعيين وهو يستذكر (عبد الكريم قاسم في خطبته في كنيسة مار يوسف- ص 42)، ثم يستدعي الكاتب قصيدة مظفر النواب: "تتحرك دكة غسيل الموتى/ أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة".
هرب الكاتب إلى خارج وطنه لمدائن عربية وغربية متفاوتة ومتنوعة الثقافات وتعرّف في ايران على الدكتور (قاسملو) الذي بسبب شيوعيته اغتالته المخابرات في زمن الشاه في النمسا.
ويتابع كيفيّة انخراطه في شمال العراق مع (فصائل المقاومة الكردية)، ويذكر كيف نجا من الموت بأعجوبة، حين انفجرت قذيفة صاروخ بالقرب منه، جعلته يتدحرج إلى أسفل الوادي.
وكان برفقته (نخبة يمتلكون خبرة وكفاءة ومهارة) سياسية وعسكرية ميدانية. حين يتذكر واقعة مأساوية قهرية في تهجير الكرد الفيليَّة عام 1980، وكيفية تعرفه على (حزب تودة الشيوعي) الايراني.
وينتقل من واقع الحرب الإيرانية إلى ما بعد التغيير في العراق، مستذكرًا استشهاد محمد باقر الحكيم في النجف. وتتداعى على ذهنه أشكال (الزنازين التي لا تدخلها الشمس) في ما بعد مرحلة الجمهورية الأولى، بوراثة (ملكية جمهورية)!، وعن المقارنة يرى أن الأوربيين قد تحرروا من سطوة القرون الوسطى، بإصلاح الحركة الدستوريَّة.
ببعد بنيوي وقيمي وثقافي التي أثرت على الدستورية المشروطة في ایران.
ثم يستذكر القائد الشيوعي العراقي سلام عادل الذي اعتقل في قصر النهاية ولاقى حتفه هناك، بموقف شجاع، لكنه قبل اعتقاله يجد أن سبب تصدع الحزب الشيوعي، ابتدأ بعد عام من ثورة تموز 1958.
تنقل الكاتب ما بين اليمن، سوريا، إيران، دول الغرب، وعن عودته إلى العراق يستذكر ما مرَّ به من كوارث وأهوال وانتهاكات تتخذ طابعًا دينيًّا، وعرقيًّا، وطائفيًّا بمثل ما خبره في مخيمات خارج العراق واشمئزازه من (زمر البلطجية والمنحطين قيميًّا) وامتعاضه من خراب الوطن عند الاحتلال الأجنبي، اذ يسجل في بغداد: حادثة تفجير مبنى الامم المتحدة، وظواهر الإرهاب، وسقوط آلاف الضحايا، وغياب مفهوم الأمة، أما عن كيفيَّة عودته للعراق مستذكرًا مقولة هيجل: (الدولة روح الأمة) ليقارنها بالواقع المأساوي المعيش في بغداد، وهو يتساءل عن أية دولة تختزل الامة الطائفة والعشيرة والعقائد وهي تخوض في دمار شامل وجحيم الغربة داخل الوطن، ورحلة البحث عن عمل وسكن). مستذكرًا قصيدة لشاعر الحداثة في ايران بعنوان "بني أدم": (.....أنتم يا من تمرحون هناك عند الساحل في الماء شخص يلفظ أنفاسه الأخيرة وتترنّمون بالانتصارات الزائفة).
ثم يتخاطر مع مقولة "كانط" الفيلسوف الألماني: "تجرأ باستخدام عقلك"، وأيضاً الفيلسوفة الألمانية "حنا ارندت": "إن التوافق على وقائع التاريخ المشترك، يعد شرطًا للحرية).
يرى الكاتب جمال الجصّاني، أن شرط الحرية ما زال مفقودًا لدينا في بلد، وهبته الصدفة الجيولوجية (النفط والغاز). وطن ينتظره مصير لا يقل تراجيديَّة عن مصائر أبطال مسرحيات شكسبير. وأخشى ما أخشاه ما يلتحق النفط، بمتحف المنقرضات، من أشكال الطاقة في زمن الذكاء الاصطناعي.
ثم يتبنى شعر مظفر النواب: "ما أظن أرضًا، رويت بالدم، والشمس كأرض بلادي".
أخيرًا يؤكد أنَّ ثقافة اللا عنف هي الملاذ الوحيد. وهو يستذكر أساتذة ورواد النهضة العقلانيَّة والحداثة في العراق في (تاريخنا الحديث). ويقارب (أحداث تشرين بروح موضوعيَّة، وحين ينعت في الختام (الهزائم) بأنّها مشرفة!.
وذلك لأنّها تتعلق دائمًا مع الحرية والعقلانية وكرامة الإنسان في كل مكان وزمان - حين تتعافى المجتمعات، في الأجيال الجديدة من كوارث المعارك، بمزيد من الهزائم المشرفة ذلك لأنه (مشوار لم تُخذل الحرية فيه أبدا).