د. خيرالله سعيد
إن أدب المقامة يظهر للعيان ظاهرة الكدية، بمختلف صورها، إنها عند الحريري توصف كدية الأدباء، بشكل أكثر خصوصية، رغم أن المقامات تعكس هذه الظاهرة بالمحصلة العامة، وقد أظهر الحريري، بشيء من اللوعة والمرارة والنقد الصريح لها، كموقف لمثقف يشهد حالة العصر، وقد كشفت المقامتان (2 و 49) والمعروفتان بالحلوانية والساسانية ذلك بوضوح.
لم يترك الحريري مظاهر الحياة تمر به مرور الكرام، بل راح يرصد كل ظاهرة معللا أسبابها ومستخلصا نتائجها، محملا الناس والسلطة مسؤولية ما يحدث من دمار في حياة المجتمع فاضحا بأسلوب نادر ولاذع وساخر كل ذلك، وقد تصدى بهذا الأسلوب إلى كل من انحرف عن جادة الحق والصواب، ومذكرا الجميع بمسؤولياتهم عبر المواقع التي كانوا فيها.
وإلى جانب ذلك الرصد العياني والوجداني، فان مظاهر الحياة الأخرى أو وجوهها الأجمل، هي الأخرى راحت تجد لها مستقرا في عقل ووجدان الحريري، فأخذ يبرز مفاتنها، ويظهر بدائن حسنها، معيدا صياغتها بأسلوبه الرفيع، موشيا تلك المحاسن بألوان البديع، جاعلا من الجناس اللغوي، وشاحا يحلي به متون تلك المظاهر، وناسجها بأسلوب فريد اسمه “المقامة” هذا اللغز الخالد، والذي اكتمل بنيانه على يد الحريري، أصبح من أهم الوثائق الأدبية والسياسية والاجتماعية، ناهيك عن بعده التاريخي.
في المقامات تتجلى الروح المعرفية عند هذا النابه البصري، فيسقطها على موضوعاته التي عالجها من دون أن يخل بقاعدة البناء الغزي للمقامات، فقد تميز منهجه على الصعيدين المعرفي واللغوي بما يلي
1 - كل مقامة تحمل اسما ذا دلالة معنوية أو مكانية يستدل به على الشيء الموصوف.
2 - شكلت ظاهرة الكدية/ عمودا فقريا لهذه المقامات.
3 - لم تخل أية مقامة من نقد اجتماعي- أخلاقي لواقع العصر الذي عاشه الحريري.
4 - يسقط الوعي التاريخي في المقامة، كجرس منبه، ضمن شرطي الزمان والمكان
5 - تفجر الحدث باللغة الوصفية، في سياق السرد القصصي وبأسلوب الحريري وحده.
6 - يؤلف الشعر الرديف الأمتن للنثر في بناء المقامات، وهو ثابت في جميعها.
7 - تعكس أجواء المقامات مظاهر واسقاطات فولكلورية، للموروث المتناقل شفهيا، شعرا ونثرا، وتصاحب طقوس المقامة أجواء الحكاية وأحاديث السامر.
8 - تبرز عناصر التشويق من خلال تراكمات الحدث وتجلياته وبأسلوب شبه مسرحي، يظهر البطل أبوزيد السروجي في نهاية كل مقامة، ليثبت ديمومة بقائه.
9 - تقوم اللغة ببناء هيكل المقامة، بشكل متين، ليس للهنات فيها نصيب وتتساوق موجات هذه اللغة في ايقاع قصير ومتواتر اسمه السجع، والمفردات النهائية تتوالد من معانيها، وأفعالها وصرفها، يلعب الجناس والتورية فيها، دور الوشاح المزركش للأسلوب.
10 - وضعت مقامات الحريري، بتقديرنا، اللبنات الأولى الواضحة للقصة القصيرة في الأدب العربي وهو الأمر الهام الذي لم ينتبه إليه. على أساس تلك الرؤية والمنهج صاغ الحريري مقاماته، واكتمل فنها على يديه، حتى أنه قدم بغداد سنة 504هـ ليلقى تلك المقامات على أهلها من العلماء والأدباء والنقاد، كما يقول ابن الخشاب.
وبالنظر لأهمية الموروث الشعبي في أذهان الناس، وتأثير المعتقدات الروحية في أذهانهم فأن الحريري وظف هذا الجانب في مقاماته بأسلوب ناجح وفعال، ويندر أن تخلو مقامة من ذلك وقد كانت اسقاطات الحريري بهذا الجانب واعية، أي أن هذا التوظيف كان مدروسا بحيث إنه يخدم الهدف ويقوي الوسيلة ولا يخل بالبناء الغزي للنص الأدبي في المقامة، وانسياقا مع هذا المنهج، سوف نتعرض للمظاهر الفولكلورية في تلك المقامات مؤكدين أن اسم المقامة وموضوعها يولده الحريري من البيئة التي يحكي عنها.
ففي المقامة الأولى والمسماة “الصنعانية “ فإن الحريري ينطلق من البيئة اليمنية بخصوصية “صنعاء” ليصبح الأمر - فيما بعد - معمما على البلدان العربية والإسلامية، فهو يذكر (طقوس الموت) ويصور مجالس الفاتحة، ومظاهر الحزن والنحيب يقول (ص 9) : “حتى أهدتني خاتمة المطاف، وهدتني فاتحة الألطاف إلى ناد رحيب، محتو على زحام ونحيب، فولجت غابة الجمع، لأسبر مجلبة الدمع، فرأيت في بهرة الحلقة شخصا شخت الخلقة” وشخت: نحيف.
هذا التصوير الأولي، يكشف عن حالة الناس عند فقد عزيز لهم، وهي من الطقوس الفولكلورية القديمة، والتي لا تزال مظاهرها موجودة عند الناس، وثمة التفاتة هامة، لم تفت الحريري، هي ان مجالس الفاتحة عند العرب والمسلمين تتحول بعد اليوم الأول على الأغلب إلى منتديات للتذاكر والتذكار، والعتب والعتاب بغية دوام المواصلة من جهة، ومن جهة ثانية، تخفيف وقع الحادث على ذوي المتوفى، خلال أيام العزاء الثلاثة، ومن هذا “النادي - مجلس الفاتحة “ ينتبه الحريري إلى المأكولات والحلويات والملابس وغيرها”، مذ كرا على لسان أبي زيد السروجي بنهاية المطاف للحياة، وبالعضة في دفن الميت (ص 0 1 - 11) ثم ينتقل الحريري إلى الوجه الثاني، المناقض للوجه الأول في مسلكية الشيخ الواعظ السروجي من دون أن ينسى المظاهر الفولكلورية، يقول (ص 12). قال الحارث بن همام: فأتبعته مواريا عنه عياني، وقفوت أثره من حيث لا يراني، حتى انتهى إلى مغارة، فانساب فيها على غرارة، فأمهلته ريثما خلع نعليه، وغسل رجليه، ثم هجمت عليه، فوجدته مثافنا لتلميذ على خبز سميذ، وجدي حنيذ، وقبالتهما خابية نبيذ، وبهذا النص تتوضح أنواع من العادات، كخلع النعل وغسل الأرجل، وأنواع من الخبز واللحم المشوي على حجارة.
وفي المقامة الثانية، والمسماة بالحلوانية، يذكر الحريري مظاهر التبادلات الاجتماعية على الشخص وما يرافقها في الأزياء والملابس، يقول /ص 13- 14 /”حكى الحارث بن همام قال: كلفت مذ ميطت عني التمائم ونيطت بي العمائم، بأن أغشي معاني الأدب فالنقلة هنا - في السياق الاجتماعي من الطفل ذي التمائم إلى الشاب وهو يلبس العمامة - كعرف سائد، يتوجب التزين به في هذه السن.