الأنساق الخطيَّة بين الخفاء والتجلي

ثقافة 2024/03/11
...

 مرتضى الجصاني

 

لا شكَّ أن لكل فن حالاتٍ من التطور التي اوصلته لذروة النضج الفني، وبعدها من الممكن أن ينهار أو يتم تهديم قواعده أو إعادة صياغته بصور عديدة منها الناعمة، والوحشية والقاسية، ما يعيد مفاهيمها أو طرق تشكيلها وهكذا. 

إذن الخط تطور في مراحل عديدة كغيره من الفنون الأخرى حتى دخل في مسار "التصوف الفني"، وهنا أقصد التصوف الناتج عن الفن، بمعنى أن تقودك اللوحة إلى التصوف، ربما من حيث لا تعلم. وهذه الحالة تتجلى في الخط بصورة كبيرة رغم أن الخطاطين يحاولون استلهام التصوف بشكل بعيدة عن طريق محاكاة لنصوص قرآنية، أو أحاديث مقدسة، أو حتى أقوال وحكم لأئمة التصوف وشيوخها. 

ولكن حقيقة.. هذا لا يكفي. أن تكون لوحتك متصوفة، متجردة، رمزية ذات دلالة أبعد من النص، لأن التصوف هو حالة من التماهي مع العمل ومحتوياته للتعبير. 

أعتقد أن النص لا بد أن يتكلم ولا يبقى صامتا، فالنص الكلاسيكي هو صامت رغم حالة التزويق الفني والرمزي، لأنه في الأصل لوحة غير متكلمة. أما النص الرمزي المتصوف فيتكلم من دون حتى أن تجره إلى منطقتك، لأنه يتضمن نسقا مضمرا للنص. الأشياء التي لم تقلها بعد.. الأشياء التي يحتويها النص في داخله وما بعده.. الأشياء التي يكتشفها كما يحب.. الرمزية التي تحاول قول المخفي بعيدا عن التسطيح الفني للحرف الذي يحوي قوة خارقة على التعبير، لأنه بالحرف من الممكن أن يتعدد المعنى والمعنى داخله، من الممكن أن يعبر عن نفسه بأشكال متعددة. وهذه الأشكال من الممكن أن تكوّن مع بعضها معاني أخرى مختلفة، تتشكل في كل مرة بصورة جديدة. وهكذا يكوّن الخط سلسلة متداخلة من المعاني والنسق الداخلي المعبر، وصولا لتجريد النص كليا وإحالته إلى رمزية معبرة. أما الفنان -أعتقد- عليه اكتشاف القوة الداخلية للحرف وإطلاقها بأية صورة كانت. وهذا يقودنا إلى حالة الخفاء والتجلي في الأنساق الخطية في العمل الفني ذاته.

تنقسم الأنساق الخطية إلى قسمين، أحدها نسق ظاهر، والآخر نسق خفي مضمر أو باطن. والحقيقة أن أحدهما ينفتح على الآخر أو إنهما متلازمان لتحقيق الوظيفة النسقية، حيث تكون العلاقة بين النسق الظاهري في ظهوراته وتشكلاته من جهة والنسق الخفي عبر شفراته ومرجعياته ورمزياته تكون أنساقا سيميائية مفتوحة عبر العمل بصورته الكاملة. وعلى الرغم من أهمية النسق الظاهري في تمثلانه اللغوية والنصية الظاهرة وإتقان شكله الفني، إلا أن ما يثير الاهتمام هو النسق المضمر الذي يختفي أو يتجلى بين خبايا الشكل أو ما بعده، فكل نسق ظاهر يخفي خلفه نسقا مضمرا.  

وتأتي أهمية النسق الظاهر في الكشف عن مواضع النسق الخفي من تجليات أو إيحاءات، بينما يعتمد النسق الخفي المضمر على النسق الظاهري من حيث الهيكل العام للعمل فقط، إذ يتوارى النسق الخفي خلف الشكل الظاهري للنص ليقبع في الخفاء وينفتح على عالم وحده وتنفتح الصور السيميائية في التوظيف والمعنى. 

لا شك أن دراسة الأنساق الظاهرية للشكل في الأعمال الخطية مهمة في معرفة تشظيات النسق اللغوي للنص وتفرعاته في النسق المضمر الخفي أو تجلي النص في الأنساق الظاهري منها والخفي، ولكن هذا التجلي والخفاء ليس حالة عامة في أعمال الخط العربي، لكنه يظهر ويختفي على شكل ومضات من الحالات الفنية، حيث يظهر هنا وهناك من خلال أعمال بعض الخطاطين والحروفيين، لكن ليس بتلك الدرجة التي تجعله حالة عامة يمكن الإشارة لها أو وضع اليد عليها ودراستها بصورة مستفيضة، وإنما تومض بين فترة وأخرى كحالة فنية قد تكتمل أو لا.

على الرغم من الحالات الكثيرة التي ظهرت محاولةً توظيف النسق الخفي في اللوحة الخطية واللوحة الحروفية، إلا أن الفنان الحروفي أو الخطاط لم يستطع الإمساك في هذه التفصيلة كما يجب، أو تفلت منه في أحيان كثيرة بسبب صعوبة الموازنة بين النسق الظاهري والخفي وقراءة النص وما وراء النص. 

وقد ظهرت حالة الأعمال التعبيرية في اللوحة الخطية منذ زمن بعيد على هيئة طيور أو حيوانات، لكن هذا لم يتطور بالشكل الفني، بل بقيت حالات فردية ثم اختفت تدريجياً، ولم يظهر النسق الخفي أو المضمر في أعمال الخط العربي إلا بأشكال نادرة. ومن الطريف أن حالات النسق الخفي قد ظهرت بداية في الأعمال الكلاسيكية قبل ظهورها وتجليها في أعمال حداثوية، لكن كما أسلفنا أن ظهور هذه الحالات لم يكن عن قصد فني، وإنما مصادفات حرفية إتقانية عالية. 

إن التأسيس لمفاهيم واصطلاحات فنية في مجال الخط العربي لم يكن واردا إلا في المجال الأكاديمي، أو من خلال النقد التشكيلي الذي يرد فيه الخط العربي بشكل عرضي وهامشي، أو بشكل عنصر تزيين جمالي لا عنصر أساسي تتمحور عليه اللوحة الفنية ويتشكل من خلال الخط نفسه النسق اللغوي والنسق الظاهري والنسق الخفي .