نظرة جماليَّة على حقيقة المسرح

ثقافة 2024/03/11
...

 د. علاء كريم


يشغل المسرح حيّزاً كبيراً في حياة العديد من الناس والشخصيات البارزة على مرّ التاريخ ومن مختلف الأعراق والقوميات، فهو مؤثر على أغلب المجتمعات، وهذا ما تجسد في قول (بريخت) أعطني خبزاً ومسرحاً أعطك شعباً مثقفاً.

وتعد حقيقة الإبداع الفني بنحو عام ومنه فن المسرح، من أهم المواضيع، التي أثارت اهتمام الفلاسفة منذ القدم، بل شكلت هذه العملية الإبداعية لديهم أعقد المشكلات، التي اختلفوا حول تفسير دوافعها وأهدافها وغايتها، حيث تناولها بالدرس والتحليل كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو، وكل من أتى بعدهم من الفلاسفة وفي فترات لاحقة، ومن الذين عملوا على نظريات فلسفية قدمت تفسيرات جديدة للإبداع على أسس فلسفية وعلمية.

إذ يرى (أفلاطون) أن الصراع بين الفلسفة والشعر الدرامي ويقصد به المسرح أبدي وجوهري، وعدَّ الشعر الدرامي إثارة حسية تحاكي الحقيقة بالتخيلات الكاذبة، فالشعراء التراجيديون لا يستحقون أن يدخلوا مدينته الفاضلة القائمة على العدل، لأنهم في نظره يخلقون وهماً ويجملونه ليخدعوا به الناس، عكس الشعراء الغنائيون والملحميون والتعليميون الذين يصدر كلامهم عن الحقيقة في نظره، المتجلية في عالم المثل والمعبرة بالفعل عن قيم الخير والجمال لاهتمامهم بمدح الآلهة والأبطال وتوجيه المتلقي إلى التحلي بالقيم الأخلاقية، باعتبار أن كل الموجودات في العالم هي محاكاة وإعادة تشخيص وتمثيل  لما هو كائن في عالم المثل، وكل ما ينتجه الإنسان من فنون في نظر أفلاطون هو «محاكاة لما كان هناك في ذلك العالم»، لذا هو لا يكتفي بإبراز أوجه التقابل بين الفلسفة والفن عموماً وضمنه المسرح، بل يستند إلى ذلك التقابل من أجل الانتصار  للفلسفة على حساب الفن، لأن الفن هو مجال للأسطورة، وبالنتيجة هو مكان لكل ما هو لا عقلي كالغريزة والخيال والوهم والخطأ والصدفة والتخمين… أما الفلسفة فهي مجال للعقل الذي يعمل على إنتاج الحقيقة التي تعتمد على بناء المفهوم والحكم والاستدلال. 

أما (أرسطو) الذي ارتكزت نظريته في الفن على المحاكاة، يختلف بل يعارض أفلاطون في موقفه من الإبداع الفني والشعر الدرامي، حيث يرى أن كل الفنون هي نتاج لرغبة متأصلة في الإنسان لمحاكاة ما حوله، والمحاكاة هي في الأساس غريزة داخل الإنسان، ويمكن بالمحاكاة يكتسب معارفه الأولية، وبها يختلف عن سائر الكائنات، كما أن الناس يجدون لذة في المحاكاة التي ليست تقليداً حرفياً ونقلاً فوتوغرافياً للواقع، بل هي إعادة خلق وتشكيل للواقع بصورة جديدة، وبطريقة فنية يحضر فيها العمق التخيلي، الذي يستدعي عنصري الفن والجمال، لدورهما الفعال في العملية الإبداعية، ويقول أرسطو: أما عن الشعر، فإن المستحيل المقنع أفضل من الممكن الذي لا يقنع، وهو ما يوضح أن أهمية الفنان الحقيقية في الإبداع ليست هي النقل الحرفي للواقع بخطاب مباشر، بل بصياغة خطاب فني مقنع على المستوى الفكري والفني والجمالي لما يمكن أن يقع في الواقع من أحداث، وليس كما وقعت بالفعل.

وعليه، تعد نظرة أرسطو للفن نظرة جمالية، وذلك بجعله هدف المحاكاة شيئاً جميلاً، والفن في نظره محاكاة جميلة لأي موضوع، حتى ولو كان مؤلماً ورديئاً، بخلاف أفلاطون الذي نظر إلى الفن نظرة أخلاقية محضة، بجعله المحاكاة هدفا لبلوغ المثل العليا، علما أن أرسطو لا ينفي دور التراجيديا في تكريس القيم الأخلاقية، لكن ليس كهدف واحد وإنما للتراجيديا أدوارًا أخرى منها: تلقين المعارف وتطوير التجارب الإنسانية الملامسة للمعاناة والتخلص منها عبر (التطهير) الذي يحدث عندما يدخل الممثل في الشخصية، ويتشارك معه الجمهور، وتحصل لهما القناعة بأنهما أمام أحداث حقيقية وواقعية، فتتطهر النفس عقب ذلك من كل الانفعالات العنيفة والضارة مثل العنف والخوف وغيرهما من خلال مقاسمة البطل نفس الأحداث المأساوية، التي يعيشها ويعرضها على الخشبة، أملا في نيل الرحمة والثواب والغفران، لكون تلك الأحداث تستثير لدى الجمهور انفعالات ناتجة عن معاناة تشبه وتماثل ما عاشه هو أيضا في السابق، فيكون بذلك معنى الإبداع الدرامي عبر إعادة الحياة، ومن خلال ظهور المحن القديمة في ظل ظروف آمنة نسبياً، وليس خلق محن ومتاعب جديدة. 

وفي حقيقة الأمر هناك من عمل بشكل مخالف لهذه الآراء، وأخذ يؤكد بأن المسرح استطاع أن يُسهم في تطوير الحياة، وايضاً في جوانب مختلفة على الصعيد السياسي، والانفتاح على مجالات الحياة الأخرى، ومنها الأخلاقية عن طريق الكشف والنقد والتوجيه.

وهذا ما حدث في عصر النهضة، إذ تم طرح مجموعة آراء، منها، أن يستقل فن التمثيل عن غيره من الفنون كالموسيقى والرقص والغناء، ومن ثم عن الجوقة، وهكذا يتم العمل وفق بنية متكاملة للعرض المسرحي، لأنه يعد مرآة للحياة، فقد كان من الطبيعي أن يتطور فن المسرح، مع تطور الحياة عبر التحولات الزمنية، كما في القرن الثامن عشر، والذي يعد زمن التفكير والنقد الفلسفي الذي انتقد الأدب التمثيلي، واستنكر تقسيمه إلى فنَّين لا ثالث لهما: فن خاص بالنبلاء وهو التراجيديا، وفن خاص بعامة الشعب وهو الكوميديا، وتمت المطالبة بخلق نوع جديد من المسرحيات تقدم مشكلات الطبقة الجديدة الناهضة والمحفزة للثورة، وهي الطبقة الوسطى المعروفة بالبورجوازية، والمتمثلة بالتجار والصناع والموظفين ورجال الفكر والفن في المدن، ليتم من خلالها معالجة الاشكاليات التي تنتج في هذا الخليط المجتمعي.

لذا يمثل العرض المسرحي الواقع شكلاً ومضموناً، وذلك عبر تقديم افكار مغايرة تعكس مظهر الحياة بتعدد مشكلاتها داخل حدود البيئة، وما تحمله من قضايا مصيرية لها ابعاد جمالية رغم معاناتها، وهذا قد يخلق عند المتلقي استقراءً يبحث من خلاله عن كل ما هو جديد، لإيجاد اللحظة الذاتية التي تمكنه من معرفة فعل المعالجة لتلك المشاهد، فضلا عن محاولة الوقوف عند الاحداث لتقييم التماسك البنائي للعرض مقارنة بالانعكاسات السلبية للواقع وبأسلوب نقدي يرتبط بالوعي الجمعي وما يحمله من مفاهيم ثقافية وإنسانية، تتجلى فيها روح المسرح التي لا يمكن

كبتها.