موت القارئ

ثقافة 2024/03/13
...

 أمجد نجم الزيدي

التصقت بمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة مفردة ملحة تتكرر دائما وهي «الموت»، فمن نيتشه و»موت الإله»، ثم «موت الفلسفة» و «موت الايديولوجيا» ومرورا برولان بارت و»موت المؤلف»، ومن ثم «موت الناقد» لرونان مكدونالد، وهلم جرا، والتي تحيل إلى أن العالم يمر بمخاضات كبيرة، أماتت المفاهيم التقليدية الراسخة، وولدت مفاهيم وتصورات أكثر تحررا، وربما «عدمية»، ومن هذه المفاهيم التي تعرضت إلى تحولات كبيرة هي عملية كتابة النص الأدبي وتلقيه، فلو قرأنا بيت أبو الطيب المتنبي الذي يقول فيه: «أنامُ ملء جُفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جرّاها ويختصم».

لوجدنا أن هذا البيت رغم ما يضمره في صدره من هيمنة الشاعر/ المؤلف على نصه، وامتلاكه لأسراره ومفاتيحه، والتي تتيح له فرض سلطته عليه، إلا أنه يشير في عجز البيت إلى اختلاف الآراء حوله، وتعدد تفسيراته، فبرغم أن المتنبي يعلي من سلطته كمنتج للنص، إلا أنه يقذف بالمتلقي/ القارئ في لجة تعدد تفسيرات النص واختلافها، حيث يتشظى ذلك القارئ إلى مجموعة من القراء الذين يمتلكون وجهات نظر مختلفة، وربما متعارضة، وهذا التصور الذي قدمه المتنبي في عجز البيت، يظهر اليوم ربما وبصورة ملحة مع التطور السريع في مفاهيم الكتابة والتلقي، إذ نشأ في عملية إنتاج النص وتلقيه تحول كبير، يتحدى التراتبية التقليدية بين المؤلف والقارئ، إذ حفز مفهوم رولان بارت «موت المؤلف» وزوال هيمنته؛ إلى التأمل في مفهوم آخر، وهو مفهوم «موت القارئ»، الذي يحول موضع التفسير، وإعادة إنتاج النص بعيدا عن السلطة الفردية للقارئ، ونقاط تمركزه

التقليدية.

 أشار رولان بارت إلى أن «ولادة القارئ» يجب أن تأتي على حساب «موت المؤلف»، والذي يغير بشكل أساسي فعالية السلطة ومراكز الهيمنة في عملية التحليل الأدبي، عبر الابتعاد عن نوايا المؤلف بوصفها مخططا جامدا وأُحادي لتفسير النص، وتقييده، وبدلا من ذلك، يدعو إلى تفسير أكثر دينامية وتعددية، يصبح فيه القارئ مشاركا نشطا في خلق المعنى، وهو ما تبنته «نظرية التلقي»  ومنظريها.

إن أحد ميزات الأعمال الأدبية أنها تتطور وتنمو وتتكيف، ويتردد صداها بشكل مختلف ومتنوع عبر الزمان والمكان، فلو نظرنا إلى الأعمال الأدبية التي كتب لها الخلود عبر الزمن، كالمعلقات السبع أو قصائد المتنبي أو غيرها، على سبيل المثال، نراها قد بقيت محافظة إلى يومنا هذا على نفس ديمومتها، وامتدادها عبر الزمان، وتمت قراءتها مرارا وتكرارا وبعدسات تلق مختلفة، وكل قراءة جديدة تضيف تفسيرا جديدا؛ أو طبقة جديدة إلى أديمها، والتي تجعل من القراءة مفتوحة عبر الزمن.

   قادتنا النظريات الخاصة بالقراءة واستجابة القارئ إلى إعادة النظر في الطبيعة السياقية لتحليل وتفسير النصوص، إذ ربما تشير إلى أهمية السياقات الثقافية والاجتماعية والتاريخية، والخروج من أطر النص وبنيته المحايثة، في تحديد فهمنا للنص، وما يثيره العمل الأدبي من مشاعر وتأملات متباينة، اعتمادا على خلفية القارئ وتجاربه الشخصية، بوصفه قارئا منفردا، إلا أن  التطور الرقمي المتسارع وظهور الأنترنيت، بمواقعه ومدوناته، وسرعة الوصول إلى النص والاطلاع على وجهات النظر المتنوعة بشأنه، والذي ساعدت عليه بشكل كبير منصات التواصل الاجتماعي والمنتديات والمواقع المختصة بالقراءة أضفى هذا التطور طابعا تفاعليا على الخطاب الأدبي، والذي سمح للعديد من التفسيرات والقراءات بالظهور بصورة متحررة، تزاحم القراءات التي كانت توصف بالجادة والمتخصصة، بغض النظر عن مدى جودة وضعف تلك الآراء والتفسيرات.

حفزت دعوة بارت إلى «موت المؤلف» وزوال هيمنته على عملية فك رموز المعنى؛ إلى نشوء تحول كبير في الأوساط الأدبية، من خلال تحدي العلاقة التقليدية بين المؤلف والقارئ، والتي دعت بصورة غير مباشرة إلى التأمل في مفهوم آخر- كما أسلفنا- وهو «موت القارئ»، والذي لا ينسب كمصطلح -بصورة مباشرة- إلى كاتب ما، بل أنه ظهر وتشكل كمفهوم مكمل لمفهوم رولان بارت عن «موت المؤلف»، إذ أنه يمثل تحولا في التركيز بعيدا عن القارئ، باعتباره المحدد الأساسي أو الفردي لمعنى النص، وقد ساهم العديد من المنظرين والمفكرين بصورة غير مباشرة في صياغته، أمثال رولان بارت، وميشيل فوكو، وأمبرتو إيكو، وولفغانغ إيزر، وجاك دريدا وغيرهم، كجزء من الخطاب الأوسع حول نظرية استجابة القارئ والبنيوية وما بعد البنيوية، والتي ظهرت في منتصف القرن العشرين.

إذ إن «موت المؤلف» يفكك التصور عن السلطة المطلقة التي كان يتمتع بها المؤلف، مما يمنح النص نفسه الاستقلالية، ومع ذلك، فأن هذا المفهوم لا يبشر بالقارئ بوصفه وارثا لهذا الدور، أو محكما قويا للمعنى، لذلك فظهور مفهوم «موت القارئ»ش يتحدى، وبصورة صريحة، قدرة القارئ المطلقة في إنتاج المعنى، لذا فإن هذا المفهوم يؤكد على مبدأ الاستقلالية المتأصلة في النص، بعيدا عن المؤلف والقارئ، وخارج تصوراتهم الفردية، ويدعو إلى كسر الصورة النمطية للقارئ التقليدي، والتمركز حوله، والتي تتيح للنص أن يكون أكثر انفتاحا للقراءة والتأويل، لأنه يقف بالضد من مفاهيمنا القارة عن مدى تقديرنا لاستقلالية النص، والاعتراف بأهمية وجهات النظر المتنوعة، ويشجع على اتباع طرق أكثر شمولا في قراءة النص وفك معانيه، ويبشر بعصر جديد من الخطاب الأدبي.

حيث يتخلى المؤلف والقارئ التقليدي عن مراكزهما، أمام تعامل أكثر انفتاحا مع النصوص، فتبني هذا المفهوم يجعلنا نقدر ديناميكية العمل الأدبي والتعددية المتأصلة في الأدب، والتي تثري فهمنا للنصوص المكتوبة، ويدعونا أيضا إلى التعامل مع النصوص ككيانات حية بإمكانيات لا نهائية، تنتظر من يكتشفها ويعيد تفسيرها من جديد.

وهذا الموت الافتراضي، يلغي بصورة تامة دور القارئ التقليدي ونرجسيته، بل إنه يفتح المجال أمام تعدد القراءات، التي يقدمها مجموعة القراء المحتملين للنص، من خلال العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ/ القراء بتجاربهم الشخصية المختلفة، وتنوع وجهات نظرهم، لبناء فهم جماعي للعمل

الأدبي.