المختار والزعيم

الصفحة الاخيرة 2019/05/28
...

حسن العاني 
اطلاق صفة (الديمقراطية) على بلد ما او نظام ما، أمر في غاية الصعوبة، ليس فقط لان هذا الوصف هو نتاج جملة من الشروط الواجب توفرها، بل هو قبل ذلك، يعني الالتزام بتلك الشروط التزاماً صارماً، وتطبيقها على مفردات الحياة جميعها بدون استثناء، واحدة من تلك المفردات التي استوقفتني، تتعلق بالوضع القانوني للتعامل مع (الانتقادات اللاذعة جداً) الموجهة، الى رئيس البلاد حيث لاحظت ان العلاقة بينهما عكسية بالمعنى المتعارف عليه في لغة الرياضيات، كلما كان النظام على درجة اعلى في سلم الديمقراطية، كلما تراجعت المساءلة القانونية حتى تصل الى التلاشي، وهذا ما نلمسه في بريطانيا مثلاً او فرنسا.. الخ، حيث تتولى اجهزة الاعلام قبل غيرها مهمة الانتقادات اللاذعة والقسوة على الرئيس او حكومته او احد وزرائه او المحسوبين عليه، وقد تبلغ القسوة حداً يمكن ان ينال صاحبها عقوبة الاعدام في البلدان الموغلة في دكتاتوريتها، وقائمة الذين نالوا مثل هذه العقوبة على يد النظام السابق طويلة، لا تبدأ بمقالة لضرغام هاشم ولا تنتهي بقصيدة لغازي ثجيل.. في حين لا حساب ولا مطاردة ولا مضايقة لمن كانت دولته ترفع راية الديمقراطية الحقيقية، وهكذا نجد ان رسام الكاريكاتير لا يستطيع فقط ان يعبث بخلقة الرئيس كما يحلو له، بل باستطاعته كذلك انجاز رسومات سياسية ساخرة ابلغ تأثيراً من اقسى شتيمة، ويصح الامر كذلك على المقالة والقصيدة والرواية والفيلم والمسرحية..الخ
في معظم بلدان العالم الثالث  يتم النظر الى الرئيس على انه أثمن شيء في البلاد، ولذلك فهو مشمول بعبارة (ممنوع اللمس)، وهذه النظرة في العادة هي من صناعة الاجهزة الامنية والحزبية الموالية لرأس النظام، والغريب ان بعض الرؤساء المعتدلين الذين يرفضون مثل هذا التأليه، يفشلون في الحد من تحجيم تلك الاجهزة المتطرفة في تخويف الناس من الرئيس، وربما كان الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم واحداً منهم، فبقدر ما عُرفَ عن الرجل من تسامح، وهو صاحب المقولة المشهورة (عفا الله عما سلف) بقدر ما كان الموالون له ولاء اعمى قد زرعوا رهبة في قلوب الناس، ورسموا صورة مقدسة له، ما كان- هو – يرضى عنها... أذكر في عام 1961 ان احدى سيدات محلتنا وتدعى (ام أحمد) قصدت مختار الطرف ذات ظهيرة تموزية حارقة وراحت تطرق الباب بعنف بعد ان وصل الى اسماعها ان زوجها زار (زكية) الارملة وربما ينوي الزواج منها، حتى اذا دخلت البيت طلبت من المختار على الفور ابلاغ السلطة عن زوجها لأنه شتم الزعيم... وفطن الرجل الى سبب زيارتها فقال لها بذكاء (مع الاسف يصدر مثل هذا التصرف من ابو احمد.. وهو خوش انسان وعاقل، وآني قبل يومين كلفته يخطب زكيه الارملة للحاج مهدي اللي توفت زوجته قبل اربع سنين، والحمد لله تم الاتفاق على كل شيء، وخميس الجاي عقد القران) ثم نهض (يا الله.. أروح ابلغ الشرطة) قفزت ام احمد وقالت له (والله مختار تريد الصحيح... هو رجلي ما شتم الزعيم.. بس كان يشتكي من راتبه القليل.. حقيقه زوجي كلش خوش آدمي.. أرجوك اترك القضية.. وآني اعتذر عن الازعاج) وضحك المختار في تلك الظهيرة كما لم يضحك من قبل!!