صورُ الإدراك الحسّي والنفسي
جبو بهنام بابا
في لحظة ما تأخذنا الدهشة أمام نصوص نحاول الإفلات منها، ولكن حين نتجاوز بعض الأسئلة الواقعيَّة نحاول أيضاً تجاوز الشكل، في نوع من التوازن النفسي السايكولوجي، في محاولة للخروج ولتكسير القيود الشكليَّة التي تجاور النص، في فعل مواز لمادة الإحساس الجمالي والشعور بنكهة ماضية تؤرّخ قوانين الالتحام بين المادة والنص والثيمة التي تؤطره، من خلال مدلولات النصوص والدخول في مداركها العميقة التي تكثف الرؤية وتكشف طبيعة الانفعالات التي تكسو عواطف الإنسان في لحظة ما، وهذا ما يشغل روح الشاعر علي شبيب ورد في مجموعة (سماء ثامنة) في أمانيه التي تبقى تساوره: الذي غادرته السفن/ وطاله الخرس/ ولسعته النار/ وشرنقه الرماد/ وبلله المطر/ وسوره الدخان/ وهدده العمى/ هو سمييّ) ص 8.
العودة إلى الزمن الماضي خصائص يحاولُ الشاعر أنْ يستذكرها بمفردة نفسيَّة كلاسيكيَّة، فكلما ساورته الذكريات التي كانت أو ربما ألمّت به في خضّم الأمواج العاتية التي استطاعت أنْ تقذفع قرب الشاطئ، ويبقى كأسطورة ونفحة من تاريخ كلاسيكي، حاملاً الذات في أمنيات ذاتيَّة، من شعورٍ وتفكير، وهذا يحدث في صورٍ ذهنيَّة، وكيانٍ ذهني، جانحاً للخيال برغبة سرديَّة ونسقٍ مسترجع، وذلك في تقنيَّة إنشطار ملهم من ذكريات التشكيل الزمكاني في لغة السرد الواقعي، والتي أضفت على المجموعة لغة الجماليَّة، ذات الحس المطعّم بانسكلوبيديا العصريَّة واسترجاع الواقع القديم: منذ أول انفتاحٍ لقلب وردة/ تجمّع الناس/ لاحتطاب أول نفحة في التاريخ/ لتقديمها قرباناً/ لأول أنفٍ أسطوري/ منذ ذلك الأسى اعتاد الناس على خدمة الأنف العالي حتى لو اضطروا للإطاحة بانوفهم/ لتعطير الأنف الأمثل/ شكراً لجدي الفاطمي قبل الميلاد/ الذي أورثني أنفاً تالفاً/ ومعدة خاملة/ وفماً يأكل بلا طعم/ ويصرخ ولا أحد يسمعه/ وأذناً لا تذر أبداً ولا تنفع/ وشكراً للأزل الذي يتعكّز عليَّ/ ليشق طريقه: ص 14 و15.
حَظِيَت الصورة الشعريَّة عند القدماء بالاهتمام والتحليل، وقد أكَّد الناقد إحسان عباس أنَّ الشعراء قد استخدموا الصورة الشعريَّة منذ القِدَم، إذ قال: وليست الصورة شيئاً جديداً، فإنَّ الشعر قائمٌ على الصورة منذ أنْ وُجدَ إلى اليوم، لكنَّ استخدام الصورة يختلفُ من شاعرٍ إلى آخر، كما أنَّ الشعر الحديث يختلفُ عن الشعر القديم في طريقة استخدامه للصُّور، وقد درسها العديد من النُّقاد العرب، كعبد القاهر الجرجاني، إذ يقول: ومَعلوم أنَّ سبيل الكلام سبيل التصوير والصِّياغة، وأنَّ سبيل المعنى الذي يعبِّر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصَّوغ فيه.
وللجاحظ أيضاً قولٌ في هذا، إذ قال: الشعر فنٌّ تصويريُّ يقوم جانبٌ كبيرٌ من جماله على الصورة الشعريَّة، وحسن التعبير (الذي (هو أنا)/ تستهويه لعبة الغياب والعودة/ عبر بوابة مفتوحة، لذهن/ كأنه محارب غيور لا همَّ له/ سوى الإطاحة بي/ أنا المقتلع من ذاكرة، لا تشبه سوى اسفنجة/ ذهني (مثلا) بحر عجائب/ أجمل ما فيه، دلافين الكوارث) ص 24، ماذا يحدث.. دون فناء لماذا؟ يسأل النهارات والليالي وكيف يستطيع أنْ يسأل عن معنى الخلود إذا لم يكن بشاعر؟ هل لأنَّ الخلود مجرد كلام هراء لتكثر المآسي؟. (لماذا تنضد النهارات والليالي/ أما تدري/ بأنَّ الخلود كذبة/ حيكت لإكثار الجماجم) ص27.
يعود الشاعر يطرح السؤال أنها دعابة يمكن أنْ تكون كذبة نيسان ليعلم الأخطاء في وهم الخلود (غير أنه دعابة لا بأس/ بها لمعرفة متوالية أخطائك/ البارعة في التناسل). ص 27.
الشاعر يتميز بمسحه بكائيَّة متوغلة في أوصال نصوصه بحيث تجعلك مفرداته نوعاً من الكآبة والحزن المستفيض. إنَّ ذات الشاعر هطلت في الآهات ومواكب الآلام ومن هذه الآلام نتذوق أشكال ومذاق كل نتاجٍ ملتزماً بتيار الصبر والحكمة والمعرفة وقد يصل بنا الشاعر أحياناً إلى مفردات في أغلب القصائد إلى حد القبول والرغبة في اكتشاف الذات الإنسانيَّة من جوانب قد تضيء حيناً وقد تظلم أحياناً وهي بالتأكيد أدواتٌ يتفرد بها الشاعر ليبني قصيدته من خلال اسلوب التداعي الذي يوقظ لمحات المباغتة بكل إشراقات الحدث. والتي تعني كل حزن برغم التهويم في متاهات الميتافيزيقيا وما الذي يحصل بعد الفناء (وهم هو الخلود/ فبركة كلكامش الموهوم/ لتطفو الجماجم /على بحر أحمر) ص 27. جاء الى التاريخ ليرسم ملامح كلكامش في وقته تصبح الماء لونها أحمر. (من يمسح الهراء عما فات/ لتدوين ما تراه أنت بسلاسة/ وكيف تخطو لما تراه بعجالة/ واللافتات غابة تيه رجراجة) ص 28. فتخطو لما تشاهده سريعاً واليافطات مجرد أشجارٍ كثيفة تتحرك هنا وهناك. يطارده الملل يرغب أنْ يعلم أين الرحيل؟ (يطاردك الملل كظلك/ وأنت لا تعرف/ أين يذهب الموتى؟/ لا تعرف سوى أنهم/ يذوبون في التراب) ص 28. حين يجمع البكاء في بوتقة البسمة.
إذن نحن بحاجة إلى هكذا أصواتٍ شعريَّة تبعث فينا روح الأمل والتفاؤل. فقدم الشكل الشعري لا يقف حائلاً في وجه التجديد.
فالتجارب الشعريَّة الكبيرة لم يجدها شكل معين وإنما أعطت فيضاً من النتاجات التي تجعلنا نقف منبهرين أمام تلك الالتماعات الفذة. فالشاعر يفوح ألماً وبكاءً في أكثر من قصيدة، إنَّه متعدد الإشارات ترميزاً واسطورة بما يفضي إلى معانٍ ودلالات كليَّة تدخل ضمن قيم القصيدة وما يتفرع من معانٍ ودلالات (لو يجمع كل بكاء الدنيا. في بسمة/ لتحذّر هذه الأرض عن أكل الأبناء) ص 29.
يرغب الشاعر أنْ يبقى الراحلون في أمكنتهم، فهو يعترف. ماذا يحدث للدنيا إنْ لم تفن فهو يرغب أنْ تبقى سليمة دون فناء (وآه آه آه/ لو يبقى الأحياء مع الأموات). ص29. ما يلبث أنْ يردف بهامش يسعف على انتظام المفارقة أو تعميق الأصالة، أو ضبط التناص تطويقاً لحاجة المعادل الموضوعي، رغم هذه الدعوة المتمردة على الخوف، واسطورة الموت والفناء، يعطي للكلمة القوة والعنفوان في مواجهة الطغيان والتعسف. بحيث يعطي عدة دلالات للفناء فهو المعاول الموضوعي لكل حالات الإنسان وحياته الخاصة.
إنَّ تعالق النصوص بأخرى وهو من المصطلحات والمفاهيم السيميائيَّة الحديثة، مفهومٌ إجرائيٌّ يسهمُ في تفكيك سنن النصوص ومرجعيتها، وهو بذلك مصطلحٌ أريدَ به تقاطع النصوص وتداخلها ثم الحوار والتفاعل في ما بينها باستخدام لغة التناص، بوجود تشابهٍ بين نصٍ وآخر أو بين عدة نصوص. وهو مصطلحٌ صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نصٍ معينٍ ونصوصٍ أخرى، وهي لا تعني تأثير نصٍ في آخر أو تتبع المصادر التي استقى منها نصٌّ تضميناته من نصوصٍ سابقة، بل تعني تفاعل أنظمة أسلوبيَّة. وتشمل العلاقات التناصيَّة إعادة الترتيب، والإيماء أوالتلميح المتعلّق بالموضوع أو البِنْية والتحويل والمحاكاة.
يشير الشاعر الى أنَّه يستغيث ربما لأنه في محنة ما، والاستغاثة بالله في الشدائد تكشف المهمات وتفرج الكربات، طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة، والعون على الفكاك من الشدائد: (قمر يرسم الضوء رماحاً/ شمعة ترقص جذلى كجديلة لاهثة/ ريح نائبة/ قمر يطعن بطن شمعة/ شمعة تتشطى.. تستغيث/ ريح تدنو/ قمر يتمادى/ شمعة تذبح/ ريح تحدّق/ قمر يجن/ شمعة تعوي.. تدمع.. تحلم بالخلاص/ دخان يتناسل.. يستطيل مارداً هائلاً/ يبتلع قمراً/ ويموت) ص 45.
يعدُّ دريدا أنَّ النص ليس مساحة تناقضات لكنه وعند قراءته تفكيكياً تظهر البُنى وتنفجر المعاني، فتفكيكيَّة دريدا تُفكك النص بغية إظهار أنّ ما يبدو عملاً متناسقاً هو بناءٌ من الاستراتيجيات والمناورات البلاغيَّة وفضح هذا البناء ينسف الافتراض بوجود معنى متماسك في النص. فالكتابة عنده هي أصل اللغة، وليس أصلها هو الصوت الذي ينقل الكلمة المنطوقة. ويهدف علم الكتابة الذي وضعه دريدا إلى الحلول محل سيميولوجيا سوسير. والكتابة بالنسبة له تعني الممارسة والإيضاح والفصل بالمسافات بين الكلمات، ويستخدم دريدا مفهوم الأركى- كتابة ليقلب الأقطاب التقليديَّة في اللوجوس: الكتابة/ الصوت؛ الصمت/ الصوت، عدم الوجود/ الوجود، اللاوعي/ الوعي، الدال والمدلول، إلى آخره. والصوت أو اللوجوس يصوّر تقليدياً العلامات الكلاميَّة بأنّها تتألف من الدال والمدلول وهي في صُلب النظام الكلامي وتدلُّ على قرب الصوت من الحقيقة ومن الوجود ومن المعنى، لكنَّ الإنسان التفكيكي حسب دريدا ليس تقليدياً ويقوم بتتبع معاني الكلام خارج المركز أو في الهوامش ويتخلى عن الأصول أو الأسس الوهميَّة: (قصيَّة قصيَّة/ على جلدها الصدفي تزحف أسئلة تتمترس اجوبة/ فتحدث الوقيعة/ تتنافس نوايا مكتظة بالتنكيل/ فحيح وشايات/ صرير مكائد/ تساقط الأسرار صرعى نجيعها الاكتشاف). ص 56.
يحاول الشاعر إيجاد منفذٍ للخروج من العزلة التي تحتلُّ مفاصل كونه المغلق، يتردد بنوايا غامقة ليكون في منأى عن سجن مرمري، بعيداً عن دمعيات تهز مآقي العيون، وترسل صهوة الملح المفتورة بثنايا النسيان، وأحلام تصفع كل مآسي القهر، ونبدأ نركض خلف إعصار يشدّ خلفنا حروف أنسه النائي في زحمة الأيام الكلمى، التي تدير منذ أنْ كانت القرون بعيدة عن مآسي الصمت، فطواها النسيان، وأغلقها ضياع الصبر المرسوم فوق تجليات القهر الزائف، وأسوار التمني تلوح بمدارات الأسى، وزيف الأمكنة: ص 72 والنص الأخير (سماء ث آمنة) إبداعي من لون خاص سريالي الملامح، بلمحات أودونيسيَّة حافل بالرمزيَّة، يفتح باب التأويل لدى القارئ. فتفكيك مفردة الأنثى تعني أنها كيانٌ نابضٌ بالحياة بكل حروفه، يتدرج النص بصورهِ الشعريَّة لرسم ملامح أنثى قويَّة تصارع الواقع بقوة، ويرتكز على مفهوم الخيانة والظلم الذي تتعرض له الذات بشكلٍ عام.
والمفردات المحذوفة أو المقطوعة توحي بوجود تشويش أو انقطاعٍ في الفهم الكامل للنص، ما يعزز فكرة الارتباك والتشتت وتفتح باب التأويل النصي لدى الشاعر. لغة النص لغة تجريديَّة للشعور بالاستخدام الواسع للرموز والصور البيانيَّة الذي يعطي نكهة خاصة للنص ويجعله أكثر عمقاً وإيحاءً بالتأمل، ما يدفع القارئ إلى التفكير في المعاني الكامنة وراء التوصيفات الشعريَّة داخل النص. فالاستخدام المبالغ فيه للتناقضات والصور المتناقضة يخلق توترًا واضطرابًا في النص، ما يعكس حالة الاضطراب والارتباك التي تعيشها الذات الإنسانيَّة: (أ .... ن ... ث .... بخفة لص بجنح قتامة/ بهمة حطاب أعمى/ بفطنة راعٍ بدوي/ خرابك يشتغل الآن/ لهذا../ ولأنَّ الحب ليس بكافٍ/ و.. لم يفن المرء تعيساً/ ولأسبابٍ أخرى عن الشهوة/ ولأنَّ مأرب سودا ليست خجلى/ تتبارى في حقب عجلى تتعاقب/ أمسكتَ زمام الشك/ كي تشعل جذوة محنة عصرك/ مَن أنت؟/ أنا المخلوع مني/ أروقتي تبادلني الخيانة / أرجائي مستعمراً ظنون/ أمصاري.. تهدر التملق الباذخ) ص 79.
يبدو أنَّ المجموعة تدعو إلى التفكير في معنى الهويَّة الذاتيَّة والوجوديَّة، وتسلّط الضوء على الصراع الداخلي والبحث عن الهويَّة المفقودة. بلغة شعريَّة حداثيَّة مجددة، يدعو الشاعر إلى الاستقراء والتأمل في معانيه المخفيَّة، ويترك للقارئ مساحة واسعة لاستكشاف الرموز والصور والتفاصيل الدقيقة التي تفتح باب التأويل النصي بشكلٍ عميقٍ وواسع.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة