الاحتفاء بالفنِّ في رواية (بنات غائب طعمة فرمان)
علي كاظم داود
تبدو القضايا الكبرى الشاغل الأهمَّ للرواية العراقيَّة المعاصرة، فلا تكاد تغادر قضايا الواقع والتاريخ والسياسة والإيديولوجيا والهوية والثقافة والمشكلات الاجتماعية والمركزيات، حتى بدا اهتمامها بقضايا الفن والجمال محدودًا أو معدومًا. ولا يدخل هذا الكلام في معيار الجودة أو عدمها، بل هو حديث في الظاهرة الأدبية لا أكثر.
أما رواية خضير فليح الزيدي (بنات غائب طعمة فرمان) فإنها تحاول البحث عن ذلك الجمال الغائب، أو الفن الذي ضاع حتى كاد يُنسى، وعن الروائي المغيب في أتون عوالم سردية مدججة بالقضايا الكبرى والمآسي والمشكلات الاجتماعية والحروب والقيود والمطاردات وتهديدات الرقباء.
إنها رواية الرواية والروائي والشخصيات الروائية وهي تستعاد في عالم جديد يختلط فيه الواقع بالمتخيل. فهي رواية احتفائية بالفن الروائي وجمالياته في زمن انحسر فيه الاهتمام بالجماليات والجوانب الفنية لمصلحة الجوانب الثقافية والتمثيلات السوسيوثقافية.
تشتغل هذه الرواية في إطار السرد السيري الغيري، المتخيل، إذ تحاول إنشاء سيرة متخيلة لشخصية لها مرجعية تاريخية، معروفة ومحددة باسمها الحقيقي، هي شخصية الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان. لكن ما يميز هذه السيرة الغيرية أنها تكاد تكون مختلقة بأكملها؛ إذ تصرح بأنَّ غائبًا قد توفي منذ زمن، في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي، كما يقول الواقع، غير أنَّ الرواية تبدأ بإقامة عزاء فانتازي للروائي الفقيد، تحضره جميع الشخصيات المتخيلة المعروفة في الروايات العربية.
يحضر الروائي الفقيد أيضًا في مجلس عزائه، كما تأتي شخصيات رواياته، فهم أهل الفقيد وأبناؤه وبناته الذين هم من ورق. تأتي أيضًا شخصيات أهم الروايات العربية، لكبار الروائيين العرب، فتشارك في العزاء، ولتشهد بذلك شهادة رمزية على مكانة الروائي الراحل وأهمية رواياته في الأدب العربي.
تعمل رواية (بنات غائب طعمة فرمان) على التحاور والتناص مع روايات غائب، وتستعير عوالمها، ومنطوقات شخصياتها، في إطار فانتازي، تتحول فيه الشخصيات المستعادة إلى أشخاص حقيقيين، لهم وجود خارجي تاريخي، ثم يشاركون في بناء عالم الرواية الجديدة. ثم ينهار هذا العالم كليًا في نهاية المطاف، عندما يعترف المؤلف الضمني للرواية، بأنه هو من اختلق كل شيء، وأنَّ كل هؤلاء هم شخصيات روايته الجديدة.
تتخلل الرواية مواقف وتدخلات من السارد، تبث معرفة ببعض الظواهر السردية، كأن يتحدث أحيانًا عن المنجز الروائي والقصصي، فيقول: “لا قهقهات تُعبّر عن أمزجة المغتربين الواصلين في تلك اللحظات، مثلما أشيع سابقًا في روايات التجريب وقصص الجيل الضائع من تسعينيات القرن المنصرم”. إذ يخرج السارد عن وظيفته في عرض الأحداث والوقائع، إلى تسجيل بعض ملاحظاته على النتاج السابق. وهنا تبدو شخصية الكاتب (خضير فليح الزيدي) أكثر من أي وقت آخر، فهو يحاول تقمص صوت سارد الرواية؛ لكي يكون مؤلفًا ضمنيًا ناطقًا بأفكاره. يقول أيضًا في موضع آخر: “لم يكن الهواء منعشًا كحاله في الروايات العراقية”، وهي ملاحظة تقويمية عن مدى مصداقية ما يقال ويتكرر، ولو بشكل عرضي، في عدد كبير من روايات الكتاب العراقيين. ومن مزايا الفن الروائي عنده أنَّ بإمكانها “الإلمام بتفاصيل الأماكن وأنماط العيش المختلفة من بيئة إلى أخرى، فضلًا عن تقصي آثار العوائل العراقية المهاجرة وجذورها”. كما يشير إلى بعض إشكاليات الرواية العراقية الصادرة حديثًا، ومنها أنَّ كثيرًا من الروايات “تطفح بمآسي الجنود، والسيارات المفخخة (أو) تدعي الاستناد إلى مخطوطة فُقدت منذ سنين، ثم ظهرت فجأة. (أو) تغازل الأقليات الهاربة”، وبالفعل فإنَّ نسبة كبيرة من المنجز الروائي العراقي قد طغت عليه هذه الموضوعات، مثلما أشرنا في مبتدأ الكلام، كما غابت عنه موضوعات أخرى مهمة. لكن، على الرغم من ذلك، تقول الرواية على لسان إحدى شخصياتها: “علينا أن نؤمن بالكتّاب الجدد، جيل المأساة الراهنة. إنهم يكتبون عراق اليوم، كما لم يُكتب العراق من قبل”. وذلك يبرر التناول الروائي لقضايا السياسة ومشكلات المجتمع والوضع العراقي الراهن على نحو واسع، ويضعها على صدر اهتمامات الكتاب.
يدعي السارد أنَّ (بنات غائب طعمة فرمان) هي الرواية المخطوطة الأخيرة غير المكتملة للكاتب الراحل، تركها على طاولة الكتابة في غرفة المصنع، حيث كتب معظم رواياته. وهنا تتلاعب الرواية أكثر بوعي قارئها، على الرغم من شهادة المستشرق الإنكليزي المختص بأدب غائب، أنها رواية مزعومة.
تستعيد الرواية بعض الوقائع المرتبطة بحياة غائب، خصوصًا تلك التي لها علاقة بمؤلفاته ورواياته، فتوظف هذه المحكيات ذات المرجعية التاريخية في إطار الرواية المتخيلة، ومنها أنه لم يكمل تنقيح روايته (ظلال على النافذة) وتبرر ذلك بضغوط الحياة البغدادية الساخنة وتضييق رجال الأمن عليه، وترى أنه كان عليه “إعادة النظر في شخصياتها المدخنة، والحق أنَّ المؤلف لا يدخن مطلقًا”. ولا شك أنَّ هذه العبارة تطرح تساؤلًا ضمنيًا مفاده: كيف يكتب الكاتب عن شيء لا يعرفه أو عن حالة لم يعشها؟ كما تزخر الرواية بلمحات وتأملات في عوالم المؤلف، وتقنيات التأليف وآلياته، فهي، كما أسلفنا، رواية تحتفي بالرواية والأدب والكتابة والفنون، بشكل مباشر أو غير مباشر، وتعتني بطقوس الكتاب والفنانين وتقاليدهم، وتقتطف من تلك الحقول بعض مشاهدها، فنجد فيها هذا الوصف مثلًا: “ما أشبه ذلك بلوحة عبثية لرسام مخمور، كان يبدد فكرة الانتحار بالرسم”.
يتخلل الرواية كذلك توظيف لمقولات وآراء الكاتب الراحل المنقولة من بعض حواراته مع الصحافة، وكذلك إنشاء حوارات افتراضية جديدة بينه وبين بعض شخصيات رواياته، كالحوار بينه وبين كريم، إحدى الشخصيات في رواية غائب المعنونة بـ(المخاض). فتناقش رواية الزيدي، من خلال منظور شخصية كريم، بنية هذه الشخصية في داخل الرواية، ووضعها الاجتماعي، بوصفها تمثيلًا لشخصيات مماثلة في زمنها. يحتج كريم على سلطة الكاتب التي رسمت مصيره، فيقول له إنَّ: “إغراءات السلطة التي منحتك إياها الكتابة هي التي عصفت بمصيري”. فيرد عليه غائب: “لقد حاولت قدر المستطاع أن أرسم لك مصيرًا ورديًا، لكن الكتابة تخون في أحيان كثيرة”، وهذا الكلام يعبّر عن وجهة نظر المؤلف، الذي خبر الكتابة وإكراهاتها، وكيف يمكن أن تتبدل المصائر وتنحرف مسارات السرد عمّا كان مخططًا له في البداية. فالكتابة قد تخون الكاتب أحيانًا، وربما يضطر لكتابة شيء بعيد عن قناعاته، تفرضه عليه معطيات الرواية فرضًا.
يتذكر سارد الرواية عددًا كبيرًا من كتاب وأدباء وفناني العراق المعاصرين للروائي الراحل غائب طعمة فرمان، ويتحدث عن علاقته بهم، وبعض أحوالهم وما عاشوه في تلك المدة من تاريخ العراق العصيب. ومما يذكره سبب تحول غائب طعمة فرمان من كتابة القصة القصيرة إلى الرواية، فيعلل ذلك بأنَّ “الناقد علي جواد الطاهر تصدى له بقسوة حين كتب مجموعته (حصاد الرحى). قال إنها أقرب إلى التداعي منها إلى السرد. ذلك المقال الصادم جعل غائبًا يرتمي في أحضان الرواية بغضب لكن بإصرار على النجاح. وفعلًا حدث ما لم يكن متوقعًا من قبل الكثيرين. فقد لاقت رواية (النخلة والجيران) استحسانًا عامًا بلغ درجة التعظيم عند البعض. حتى الطاهر بارك ذلك النجاح وفاجأ الجميع بقبوله استعمال العامية في حوارات الرواية”، وتلك معلومات مهمة في متابعة وتحليل التحولات النوعية لدى واحد من أهم الرواد العراقيين.
تولي الرواية أيضًا أهمية كبيرة لفعل القراءة، بوصفه من أسس إنتاج المعرفة، وإدراك الجمال في ما تنطوي عليه بطون الكتب، إذ نطالع فيها قول رياض الخفاجي، في إحدى لحظات تجليه: “إنَّ القراءة العميقة فعل إبداعي يضاهي الكتابة. فمشقة القارئ، وهو يسبر غور الكتاب، توازي مشقة الكاتب في أثناء الكتابة. ابقي قارئة، فالقراءة ليست أقل شأنًا من الكتابة يا عزيزتي قمر الرصافة”. وهذا مما يؤكد أنها رواية تحتفي بالفن والأدب والكتب وتسعى إلى أن تعيد لها مكانتها، في زمن فوضوي تعددت فيه الوسائل التي شغلت وقت الناس والقراء بما لا طائل منه.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة