«أجلبنك يا ليلي».. من المدائح النبوية إلى رقص الغجر

ثقافة 2024/03/31
...

  كريم راهي

بالرغم من كون بحر (الهزج) الخليلي الصافي ذي التكرار الوزني (مفاعيلن) واحداً من بحور الشعر التي ساد النظم عليها منذ زمن، في القريض والشعبي على السواء، إلا أنه لا يعرف بالضبط متى ظهر النظم ببادئة {أجلبنك يا ليلي} في الأشعار التي توزن على البحر إياه في شعر العامية العراقية، ولا من أين وردت هذه الديباجة.

وكلّ ما وصلَنا من افتراضات هو أنها تعود لمنتصف القرن التاسع عشر، وأن مبتكرها هو "الشاعر الشعبي الصوفي (القادري) محمد العيدان الجنابي (ت 1898) وهو من سكنة محلة باب الشيخ في بغداد»، كما يزعم الشاعر البناء مجيد لطيف القيسي في كتابه (معرفة أوزان الشعر الشعبي) الصادر ببغداد عام 1985، والذي أورد فيه مستهل التجليبة المنسوبة للجنابي، والمعروفة لدى المدّاحين: "أجلبنك يليلي ألف تجليبة وصلّي عالتهامي اللي سكن طيبة"، وهي القصيدة التي أورَد استهلالاً مختلفاً لها الكاتب ضياء فاضل محمد الخزرجي في كتاب (نثر الدرر بحب سيد البشر) منسوبة للجنابي، وهذا ما لا نذهب إليه قطعاً، مؤيدين نسبتها إلى الشاعر (حسن العلگاوي)، إذ طالما اكتسبت المدائح التي تُدبج بـ "أجلبنّك"، والتي يقرأها المنشدون، تسمية (علگاوية). وقد وقعنا على تسجيل لمغنّي المقام (السيد إبراهيم الفحام) يقرأ فيه مديح (العلگاوية) إيّاه مع الإيقاع والموسيقى، وهو أمر نادر الورود في المدائح النبوية التي تُقرأ في العادة مع نقر الدفوف فقط، وعلى إيقاع (الجورجينة) العراقي الصرف، وهي كما يقول مجيد البنّاء "ما زالت تُقرأ من قبل (مدّاحي) الذكر ومريدي الطرائق الصوفية كالرفاعية والقادرية والنقشبندية، وغيرها". ويؤيد ذلك الشيخ علي الخاقاني في الجزء السابع من (سلسلة الأدب الشعبي) (1964) بالقول: إن الشاعر "الموصلي" حسن علگاوي المتوفى وفقاً لزعمه بحدود العام 1916 "قد سبق جميع الذين شاركوا في هذا الباب، وقد خصها بمدح الرسول (ص)". معززاً قوله بالمستهل المذكور.

كما يدعم الرأي الذي أورده البنّاء والخاقاني في ردّ أصول (نمط التجليبة) إلى المدائح النبوية، الباحث (سليم طه التكريتي) في مقال له نشره في مجلة التراث الشعبي، يقول فيه إنه قد "نشأت هذه الأغنية أصلاً في المناطق الغربية الشمالية من العراق، ابتداء من سامراء حتى الموصل وما وراءها، وهي ذات المناطق التي ظهرت فيها العتابة والميمر والمولية والسويحلي والنايل وغيرها"، مضيفاً أنها كانت "تُغنى على غرار الأذكار النبوية". 

ويقدِّر أن ظهورها يعود إلى نهايات القرن الثامن عشر أو أوائل القرن التاسع عشر، أي قبل ظهور قصيدة الشاعر حسن علگاوي، الذي "نظّم معارضة لهذه الأغنية قبل أن يأفل ذلك القرن، ويبدو لنا أن الأغنية الأصلية للتجليبة بقيت تُردد ويتناقلها المغنون جيلاً عن جيل قبل أن يبدأ الشعراء الشعبيون بمعارضتها والنسج على منوالها، وإن كانت أغراضهم في ذلك تختلف عن أغراض الأغنية الأصلية، وهي التفجّع من بُعد الأحبة وألم هجرانهم"، بعد الابتداء بالديباجة النمطية "أجلبنّك يليلي".

لقد كتب العلگاوي (شهد منتصف القرن التاسع عشر، وهو مجهول تاريخ الولادة) تجليبته أيام "توبته" وهو بعمر الشيخوخة، وهذا واضح من قوله في متن النصّ اليتيم الوارد في ديوان شعره الذي جمعه (إسماعيل عايد المجيد) ونُشر تحت عنوان (العلگاوي شاعراً شعبيّاً وأديباً): "لجلبنك يليلي واجلب الونّة على عمرِ تقضّى واشبقى منه".

ويضيف سليم التكريتي أن التجليبة قد انتقلت إلى جنوب العراق بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انتقلت إلى ملاهي بغداد في الأربعينيات. غير أن اللحن اختلف هناك عمّا كان عليه في الأصل، فقد أُدخلت عليها كلمة "الهچع" التي صارت ملازمة لها، ولم يبق من تجليبة المدائح النبوية غير النصّ الذي نُسب إلى العلگاوي ومن جاراه، والذي ما زال إنشاده منحصراً في مناطق نشوئه، لكنه يستدرك "أن شهرته العريضة جاءت من تبنّي الغجر له في رقصهم وغنائهم".  

وبينما أخذت تجليبة الغجر إيقاع ضرب "الهچع"، وهذا ما سنفصله في موضع لاحق، لا يزال المدّاحون في المناطق الغربية ينشدون تجليباتهم على ضرب الجورجينة إلى يومنا هذا. ويكفي القول إن البحث في موقع اليوتيوب بالكلمة المفتاحية أعلاه، سيؤكد كلامنا هذا بما لا يدع مجالاً للشك.

بينما ينسب الفراتيون ابتداع نمط (أجلبنّك) إلى الشاعر (هتلوش الخزعلي- توفي عام 1901) وهو من شعراء منطقة (الحسچة)، كما جاء في مقالة نشرها المؤرخ (الشيخ حمود الساعدي) في مجلة (التراث الشعبي)، وقد أورد فيها محاورة شعرية يقول إنها جرت بحدود العام 1868، اشترك بها مع هتلوش قريبه الشاعر (گنيّن الخزعلي)، إذ بدأها الأوّل بالمطلع السائد للآن في غناء الغجر:

أجلبنك يليلي ألف تجليبة    تنامه أهل الطرب وتگول مدري به

ثم تستمرّ المحاورات على مرّ السنين -والقول ما زال للساعدي- فيساهم فيها (دهش بن گنين) ومن ثم (السيد مرزة بن صالح القزويني ت. 1906)، و(الحاج طاهر بن ملا جبر الأسدي ت. 1912)، ومن بعده ولده (الملّا عبود ت. 1935)، وهو كاتب الشيخ سكر آل فرعون، وسواهم من فراتيي الوسط. كما انتقل نمط (أجلبنك) إلى مجتمع عرب الأهواز فأجادوا فيه وغنوا منه الكثير. ولقد حدّثني أوائل الثمانينيات حين كنتُ مودعاً في (سجن أبي غريب) أحد رفاق مظفر النواب أيّام نضاله في الهور أن الأخير كان ينظم التجليبة وقتها، ومما أذكره منه ما مطلعه "أجلبنك يليلي والليالي نبال...".


أصول "التجليبة" اللغوية

يتفق الكثيرون على أن عبارة (أجلبنّك يليلي) جاءت من (التقلّب) على المضاجع لطول الليل وشدّة الشوق للحبيب، ويؤيد ذلك سليم التكريتي بالقول إنها "نفس كلمة تقليب العربية الفصيحة، ويُقصد بها أن يروح الإنسان المسهّد من شدّة الألم يقلّب ساعات الليل ساهراً دون أن يغمض له جفن حتّى الصباح". 

فيما يرى (عبد الفتاح رواس قلعه جي) في دراسة له بعنوان (الشعر الشعبي الغنائي في الفراتين والبادية) أن التجليبة "لغة من جلب المرءَ: جاء به، أو من الجلاب: العسل المركز المعقود بماء الورد، كأنه يعسّل محبو بته بالشعر والغناء". ويصنّف حمودي الوردي في كتاب (الغناء العراقي) التجليبة على أنها من أغاني العمل (الحصاد)، ذاهباً مذهب العلّاف، ويورد منها ما اشتهر غناؤه بين الغجر:

أجلبنك يليلي والوياي وياي

على الوادي بچيت وحرّميت الماي

أنه امن احچي يربعي شاهدي ويّاي    اليچذّبني يجس گلبي واصاويبه

إذ يضع عبد الكريم العلاف في (الطرب عند العرب) التجليبة منسوبة إلى الغناء في الشمال، تمييزاً عن غناء أهل الجنوب، ويوردها في خانة الميمر والنايل والعتابة، ويورد من أمثلتها ما يشي ببداوتها:

لجلبنك يليلي واصبح آنه انداس

وذَل خشمي عگب ما چان عالي الراس

كل يوم الدهر ويّاي "يلعب ساس

حربه وياي حرب "مطير وعتيبة"

وقد نؤيد هذا الرأي بافتراض أن أشعار الفراق والترحال و "التقلّب على المواجع" قد سادت الفترة التي شرع فيها البدو الرُحّل بالاستقرار المؤقت على ضفاف الأنهر، ومن ثم مآل حياتهم إلى بدو شبه متوطّنين (غنّامة)، ففلّاحين، هم نواة المجتمع الريفي الحالي، والذي لا تغيب عن أشعاره للآن مفردات الرحيل ومناجاة الجمّالين وحداة العيس والضعون التي حمّلت. وهو موضوع مستقل يشكل نواة بحثنا في موضوع (جذور الأغنية العراقية).

كما أننا نؤيّد الرأي القائل بردّها إلى اللهجات المنحدرة عن أصول بدوية، إذ أن النون في "أجلبنّك" من خصائص لهجة البدو المستقرّين، ويدعم رأينا هذا ما جاء في كتاب (فقه اللغة المقارن) للدكتور إبراهيم السامرّائي، إذ يقول بالنصّ: 

"وقد بقي من التنوين بقايا في اللهجات الدارجة الحديثة وذلك كما في لهجة نجد. ولعل النون التي تلحق الافعال الجوف المضارعة في لهجة القرويين من جنوب العراق (العمارة، الناصرية) إنما لحقتها إتماما للفائدة التي تحصل من التنوين في الأسماء وربما كان شيئاً أفاد التنبيه وهو في قولهم (أروحن) و (أموتن) (...)، والآن أود أن أضيف شيئاً من ذلك؛ وهو أنهم يضيفون هذه النون إلى الأفعال المضارعة الثلاثية المضعّفة وذلك في الشعر دون النثر، يقولون مثلاً (أمُرّن) و(أجُرّن)، وربما أُلحق التنوين في غير هذين الموضعين. وذلك في الفعل الثلاثي المضارع وهو في الشعر أيضاً وعلّة هذا إقامة الوزن كما في الشاهد: (اجلبنك يليلي اثنعش تجليبه)، والجيم في الفعل إبدال من القاف". ويُعقب السامرائي: "على أن النون في (أجلبنّك) هي للتوكيد وليست من النونات السابقة".

وهذا ما يؤكده (عبد الحليم اللاوند) في كتاب (نظرة في زجل الموصل) بالقول: "إن شعراء العامية - وبخاصة في الموصل- لم ينظموا شعرهم في لهجة الموصل الدارجة، وإن كانوا من أهلها في الصميم، وإنما نظموه بلهجة أخرى هي لهجة العرب الساكنين في أطراف مدينة الموصل وهي قريبة من لهجة الجنوب، وإن كانت تستعمل بعض العبارات البدوية، فالقاف في هذا الزجل تنقلب إلى جيم في بعض الألفاظ، فتلفظ (قلّة) من القليل؛ (جلّة)". 

وفيما لم نجد أي ذكر للتجليبة كلون من ألوان (الأغاني الشعبية) في الكتاب الذي حمل العنوان إياه للسيد عبد الرزاق الحسني والصادر عام 1929، نجد الكرملي يضع في كتاب (الأغاني العامية العراقية) التي بدأ بجمعها من عام 1934، نموذجاً منها، مُضيفاً أنه لاحظها عند القبنچي، وأن "أكثر منظوم هذا الغناء يكون في موضوع الغزل".

وقد يضع البعض الشاعر (الملا سلمان محمد الشكرچي العبدلي) (1890-1976)، كأول من كتب التجليبة، وأنها انتقلت منه إلى الفرات الأوسط بعد انتقاله من بغداد للنجف، ومن ثم إلى الغجر. يقول الباحث الدكتور (حميد مجيد الهدّو) إن الشكرچي نظمها وهو "في عز شبابه عام 1913"، ومطلعها كما ننقله من مخطوطة تُنسب إليه:

 أجلبنك يليلي ألف تجليبه    سهران الگلب حاير بصاويبه


وزن التجليبة الشعري

يعرّف حسين على محفوظ في (معجم الموسيقى العربية) الصادر ببغداد عام 1964 على هامش انعقاد المؤتمر الدولي للموسيقى العربي، "التجليبة - من الأغاني العراقية". كما يأتي ذكرها في (معجم العراق) لعبد الرزاق الهلالي كنوع منفرد ضمن أنواع الغناء العراقي.

إن وزن التجليبة الشعري كما ذكرنا، هو (هزج) خليلي، لكن ثلاثي التفعيلة، أُنشد فيه الشعر العربي القريض مجزوءاً -بتفعيلتين في كل شطر- وشاهِده العروضيّ: "على الأهزاجِ تسهيلُ" وميزانه (مفاعيلن مفاعيلُ)، وهو الوزن الذي يُسميه شعراء البادية (الشيباني)، ويميزه شعراء العامية عن التجليبة الثلاثية على أنه (الطويل)، وهو غير (طويل) الفراهيدي. ثم صار يُقال إن القصيدة الفلانية مكتوبة على (وزن التجليبة) لكل أفرع الهزج المكتوبة بالعامية حتّى وأن لم تبدأ بـ (أجلبنّك يليلي)، بل حتى في حال أنها ليست بثلاث تفعيلات. لكّن يبدو أن هذا النمط قد أخذ التسمية من أول قصيدة نُظمت عليه بالعامية، ولا شكّ أنها كانت، كما هو الحال للآن، تبدأ بالبادئة المعروفة التي استهل بها حسن العلگاوي مديحه. وهو ما وجدنا على وزنه ثلاثي التفعيلات -وليس نمطه- ما ذكره عبد الكريم العلاف في (الطرب عند العرب) تحت مسمّى (غناء البكرة). يقول العلاف: «وقد سمعته أنا بنفسي من نساء عربيات وأنا إذ ذاك بين رجال عشيرتي العزة في الثورة العراقية سنة 1920 رأيت نساء في موسم حصاد الزرع يحصدن ويغنين هذا الغناء وهو:

خبب يمشي المدلل بزرگ النيلي    (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن)

على صدر المدلل دگّ يَحليلي    (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن)"

ويضيف العلاف: "هو بحر من بحور الشعر (الهزج) وقاعدته كقاعدة غناء (الشوملي) وسألت عنه لماذا سمي هذا الغناء (بالبكرة) فعلمتُ أنه لا يُغنّى إلّا في موسم حصاد الزرع لتخفيف عناء العمل وتتّفق أنغامه وحركات الحصد"، ويضيف أنه قد سُمّي بغناء البكرة لأن الذين يحصدون الزرع يقومون للعمل "مبكراً" أي صباحاً.

إن وزن التجليبة الشعري - وليس نمط أجلبنّك يليلي- قديم قِدم ما وردنا من شعر العامّية المدوّن، ولا صحة لمن من ينسب ابتكاره للملا منصور الحلي (1840-1946) - كما جاء في (موسوعة أعلام الحلة)- فلقد ورد هذا الوزن في ما وصلنا من أشعار  القرن الثامن عشر المنسوبة لفدعة بنت علي آل صويح "كلهه مهدبلة منّه شواربهه - كوسج بالبحر چسّر مراچبهه"، كما قد كتب عليه الروّاد أمثال الحاج زاير الدويچ (يجــاسم والــهوه العذري أومناويه)، والملا منفي الچفلاوي (سبحان الصنع ليلى وصوّرهه)، وللملا معروف الكرخي غنّى يوسف عمر واحداً من أشهر مربعاته: "مات اللمبچي داوود وعلومه"، كما كتب عليه حسين قسّام النجفي أجمل قصائد الهزل: (يناس شهالمصيبة الطاحت اعليّه - هود وصالح انباگوا الظهرية). ومن الجيل اللاحق تناوله إبراهيم الشيخ حسون والملا محمد علي القصاب وآخرون. كما أن الشيخ عبد الأمير الفتلاوي كتب مرثيته لزوجته (عني تروح وانته الروح من فرگاك) المنشورة في ديوانه (سلوة الذاكرين)، على هذا الوزن. عنك الغُرر الغنائية الفرات أوسطية مثل قصيدة ملا جابر ملا عباس المشهورة (يكاظم مهجتي الهجران عادمهه - راح الچان سلوة الهه وينادمهه) وقصيدة الشيخ ثامر الحمودة المزيعل (تشوف الليل هذا اللي تنامه الناس - حرام الچان بي ساعة طرحت الراس) اللتين غنّاهما داخل حسن، وقصيدة الملا حميد الرفاعي عام 1952 التي أوردها (ثامر عبد الحسن العامري) في كتابه (الغناء العراقي) والتي مطلعها (أسيلنك يحادي ما تصدّ ليه - لسوّي اعلى الرحيل وياك حربيّة)، وأيضاً القصيدة التي لم نتوصّل لنسبتها (تعال وشوف عملات الوكت بينه - تبدّل طيب جمعتنه بتجافينه)، وكلّ هذه القلائد انتهى أمرها ككلاسيكيات في رقص غجر العراق ضمن فواصل التجليبة التي تُغنّى على إيقاع (الهچع)، كما سنفصّل في قسم لاحق لهذا الموضوع.

وجدير بالذكر أن في متون (الهوسات) العراقية -عگيلية كانت أم حچيمية- أيضاً ما يرد على وزن التجليبة، وأشهرها على سبيل المثال: (يهاملتن تيدب لا تزمش دوم)، و (يكوكز وين وجهك جوك اهل لملوم). كما أنها دخلت في الأهازيج الشعبية منذ (هاي الرادهه وهاي التمناهه)، حتّى (عرس الزين هيل وطش بالولاية).

غير أنّ لا أحد من قدامى شعراء البغادّة، على علمنا، كتب (أجلبنك يا ليلي) سوى ما نُسب إلى الملّا سلمان الشكرچي. في حين أنهم برعوا في نظم المربّع البغدادي على وزن التجليبة، واشتهروا به، وتحديداً "مطلع القرن العشرين" وفقاً لما نقلته الباحثة آمال إبراهيم محمد عن هاشم الرجب في كتابها (المقام العراقي أعراف وتقاليد)، ونجد هناك الكثير من النصوص على الوزن إياه لمطربي (مربعات الكسلات) القدامى مثل محمد الحداد الذي كتب (محلاها البنت راحت للِزيارة)، ومحمد رشيد الذي كتب (مريم واعدتني الصبح لبنيّة)، ومن المربعات المتأخرة (مبارك بالفرح نگضيهه هالليلة، للفوال نوبة رحت فد جمعة، للمطعم بعد ماروح قطعية) لفاضل رشيد، وللمونولوجست عزيز علي (اليحچي الصدگ طاگيتة منگوبة)، وبعض مربعات إبراهيم فاضل القيسي الملقب (أبو عگرب)، مثل (مرتي تگول شايب بعد ماريده)، وغيرها مما هو مسجل ومحفوظ للآن لأحمد جاسم وجاسم الشيخلي وقاسم الجنابي وكثيرين. 

ثم أن العشرات غيرها من أغاني الأربعينيات والخمسينيات وما بعدها كُتبت على هذا الوزن مثل: (نوبة مخمرة ونوبة مغشاية)، (بلوة هالگلب يا ناس باليني)، (نيشان الخطوبة اليوم جابولي)، (عين بعين عالشاطي تلاگينه)، (حسبة تجيبني وحسبة توديني)، (أدري بيك مشغول بهوى الأسمر)... إلخ. 

سوى أننا وجدنا أن بعضاً مما كُتب على وزنها مقروءاً على المنبر مثل قصيدتي الفتلاوي (تهلهل والمدامع زينب تهلها) التي قرأها الشيخ حمزة الزغير، و (آيبني شگول عليك آيبني) التي قرأها الشيخ جاسم النويني. وهنالك من المنبريات ما كتبه كاظم منظور (وهب هذا الينادي يالتسمعونه) وسواه من شعراء الطفّ، كما أن هنالك الكثير من قصائد (مواكب الزنجيل) كُتبت على وزن التجليبة، لارتباطه بإيقاع الضرب على الصدور، وهذا يفسّر كون غالبية نظم القوالات النسائي من هذا الوزن، ولنا أن نذكر في هذا الصدد الرثائية المشهورة - لطرافتها- والمنسوبة لزوجة حائك حصران يُدعى (مطنّش) حين رثتهُ نادبة: (يسفّاف البواري الما يخرّنش). عنك ما جرى منه مجرى الأمثال (جزنه من العنب ونريد سلّتنه).

لقد انتسب نمط التجليبة، بعد انقضاء الثلث الأول من القرن العشرين، إلى ضرب الهچع الراقص، إضافة لما كُتب على وزنه الشعري، وانتهى به الأمر إلى أن يتبّناه غجر العراق كإيقاع لرقصة خاصّة بهم ابتكروا لها حركاتها التعبيرية التي جاءت انعكاساً للشعور بالعسف الذي ميّز حياتهم كفئة منبوذة، حتى أن صحفياً لدار الهلال المصرية هو (محمد رفعت)، كتب في معرض حديثه عن أنماط الرقص الشعبي السائدة، أنها "رقصة غجرية يؤديها الغجر في جنوب وغرب العراق كوسيلة للعيش والكسب" محدّداً "منذ بداية الربع الثاني للقرن العشرين". وللموضوع بقيّة.