عالية ممدوح.. اللُّغة تنحت الهُوية

ثقافة 2024/03/31
...

  ملاك أشرف

ظلت الروائية عالية ممدوح تنظر إلى اللغة الفرنسيّة أثناء إقامتها في باريس على أنها لغة فخمة مترفة، لغة لها صيغتان: فعل المستقبل البسيط والقريب، تقوم بتأويل ذاتها وتفسير نفسها بنفسها، بينما اللغة العربيّة لا تملك سوى حرفين وهما: حرف السين وحرف السوف، ما إن نضعهما قبل الفعل حتى ندخل في المستقبل، إنهما حرفان يمكن سحقهما وإيقاف عملهما ببساطة، فالغد في اللغة الفرنسيّة وافر جدا وفسيح على العكس في البلدان العربيّة وخاصة العراق ملاحق وأحيانا لا وجود لو؛ لذلك عانت من الضغط اللغوي كما عانى العرب من الحروب، وليس لها حل واضح إلا الدوران حول الأسماء والأفعال ثمَّ وضعهما في جملٍ غالبا ما تكون حمقاء ومضعضعة بسبب الانشغال الذهني والتعب النفسيّ.

حين لا تشعر عالية ممدوح بالأمان فإنها تحصن روحها باللُّغة العربيّة وتهرب إليها مدفوعةً بالحنين ومُبتعدةً عن اقتصاص الفرنسيّة المُهين. لم تكن مُهاجرةً ولا منفيّة بل كان للُغة رأي آخر تحدّده قوتها التي كانت عليها أن تستدعي المنفى والوقت القاتم، «بعد كُلّ حصّة في تعلّم اللُّغة الفرنسيّة، كنتُ أشعر أنني أعود من مصحّ عصبي وأن مرضي يتفاقم.. هُنا من هذهِ البقعة اللُّغويّة كانَ الخوف قد استوطن طاقتي». هذا ما كتبته في مُذكراتها أو سيرتها الذاتيّة "الأجنبيّة".

لم أكن يومًا ضدّ اللُّغة الفرنسيّة الرُّومانتيكيّة أو أي لُغة جذّابة وذات أهمية على الإطلاق، لكنني أفهم كيف يمكن للحياة أن تُفرض واقعًا على الإنسان، إذ تطلب منه أن يضع لُغته الأم جانبًا ويواجه الاغتراب بمُفرده دون أدنى تعاطف أو مُراعاة بما أن اللُّغة الأُم بمثابة بيتًا مألوفًا وآمنًا، رُبَّما يجب على الإنسان ولو لمرّة واحدة في حياته، أن يتوقفَ عن اللجوء إلى الآخرين والأشياء بشكلٍ عامّ ويواجه الموت وحده.. كُلّ شيء هادئ في اللُّغة الثانويّة، فهي لا تعيرنا انتباهًا ونحنُ نحتضر من أجلها، وأينما ننطق بها نحس إننا محرومون من القدرة والسيطرة عليها، مثلما ترى ممدوح.

لا نستطيع أن نلوم انقلاب اللُّغة الدخيلة وحشدها اللفظيّ لأنّ الشجرة العربيّة لا تنتمي إلى شجراتهم اللاتينيّة، وعليه لن نتعلمها بسرعة كالأجانب لاختلاف النظام العربيّ عن نظامهم من حيث النطق والتفكير معًا بالإضافة إلى تنوع أفكار المُؤلّف وتعقيداته، يعدّ واحدهم طموحه جسارةً وجرأةً وإصرارًا، إن الشعور بالعجز الذي يأتي مع تعلم اللُّغة يدفع الشخص دائمًا إلى التفكّر في ماهيّة اللُّغة نفسها حقًّا؛ وهذا هو السبب وراء تفضيل اكتساب لُغات مُعيّنة على غيرها من وجهة نظرة الأغلبية.

اعترفت بضرورة العيش في فرنسا الرحبة والعالميّة، إذ تفضي بالمرء إلى فعل الحُرّية والاشتغال الدائب على اكتساب لُغتها وتركيب بعض الشخصيات الروائيّة أو تدريبها على أساسها فهذهِ هي فتنة الكتابة وسحر التعلّم على حدِّ تعبيرها، وعلى المستوى الحميم، يمكن أن يكون تعلم لُغة ما خطوةً نحو شخص آخر غريب، حتّى لو كانت خطوةً خجولةً أو بدائيّة للتعرف على تاريخه ومنظوره الأوسع.. إن معرفة قيمة كوّنكَ مُبتدئًا أفضل بكثير من معرفة أنكَ جاهلٌ وراكد بالتأكيد!

تقوم بتحليل وتفكيك مُشكلات التعليم العربيّ والفرنسيّ، حيث تلحظ أن الأوّل ما هو إلّا تعليمٌ ركيك بائس لا يصلح للأعوام التأسيسيّة الأولى من حياة الفرد العراقيّ؛ ذلك نتيجة مُخلفات بريطانيا آنذاك، التي لم تترك للشعب العراقيّ أي شيء من عظمتها التي تدعيها وأساليبها المُمتازة سوى البغض والأسى، في حين إن فرنسا تركت وراءها النهضة والازدهار للذين وقعوا تحتَ انتدابها، وهو تحليلٌ جادّ، صريح والأهمّ أنهُ حقيقيّ، عادت فيه إلى جذور الأزمات التعليميّة ووجدت أنها تنبع من دول الغرب المُحتلة بالدرجة الأساس كالنهر الضئيل والمُلوث الذي ينبع من دول الجوار.

نتيقن ممّا توصلت إليه بجدارةٍ من واقع العراق التربويّ اليوم، فهو لا يُخفى حاله على أبنائه ولا على زواره الغرباء حتمًا، لن نتخلصَ من إرهاب الاحتلال الفكريّ الخطير ولن نفرَّ من الإرهاب اللُّغويّ المرير إن غادرنا بلداننا الأصلية بعد الآن.

تلاعبوا باللُّغات والأوطان والمُعتقدات؛ لذا حاولت دومًا عالية ممدوح اكتشاف وطنها العراق في كُلّ مرّةٍ تكتب فيها، مُؤكدةً أن بغداد لا تصلح للوداع أو النسيان، عندما تكتب تُعيد اكتشاف الأشياء وتتعرف إليها من جديد، إن العراق بنظرها ينتظرنا طوال السنوات لاكتشافه لا شكّ، على الرغم أنّي مع رؤيتها في أن اللُّغات بأكملِها لا جدوى منها في ظلّ الأكاذيب، الإبادات والظلام المُخيم على جوّ العالم الركاميّ الذي تلطخ بالدماء المُتدفّقة، مُتناسيين أن نلقي حمولة الهزيمة والفشل على أكتاف أولئك المُؤامرين الذين انتزعوا صفة الإنسانيّة من مُعظم الشعوب وليسَ فقط اللُّغات ومكائدها.

هُناك شيء ما نسينا أن نلتفتَ له وهو موت اللُّغة، حينما تموت المشاعر والصفات المُرتبطة بالإنسانيّة فإن اللُّغة تموت، هي كذلك بلا مُقاومة، الهُوية تضمحل أو تُسرق دون إذن، ما عمل اللُّغات والإنسان يُقتل بلا ذنب؟ ما نفعها والأحلام تسقط مغدورةً على الأرض؟ والأحرى من سيُعيد الهُويّة إلى صاحبها فيما بعد؟ «إننا لم نفلح لليوم أن تحبّنا بلداننا كما نريد ونشتهي» ولم نفلح لهذهِ اللحظة أن نجعلَ العالم يعطف علينا كما نتمنى ونتطلّع.

إننا جميعًا نعرف النهايات الخائبة المُؤسفة ولا نُحرك ساكنًا، نحنُ ولُغاتنا نشترك في صنع العار الأبديّ منذُ البداية، أثبتنا مقولة إن العار محض تكرار وتراكم قطعًا، وما قمنا بهِ مُسبقًا أدى إلى مواد نصيّة مُموّهة بإتقان، تجمّل هذا العار وتخفيه لكن الخفاء بوصفهِ خديعةً، مُجرّد أن نغفل عنه قليلًا حتّى يظهر مُجدّدًا إلى السطح. إن القضايا الكبرى تحتاج إلى موقف وليسَ إلى كلمة جريئة تصطف جنبًا إلى جنب مع أخواتها، مكونةً جمل إنشائيّة مُملة، حيث تمثل فواصل إعلانيّة فارغة تقود إلى النعاس والصداع فقط.

لا يمكننا خلق الواقع عبر اللُّغة، بل يمكننا أن نستعمل اللُّغة لصنع أفكار سليمة نواجه بها الأحداث الهجينة والوجود المُلتحف بالأغطية الدميمة مع تلك الإمكانات اللانهائيّة المُتوفرة حولنا، أعتقد أن اللُّغة بإمكانها أن تنشئ وعينا، سلوكياتنا، حقائقنا ومُعتقداتنا لكنها لا تُعيد خلق الواقع برمّته كما يتصوّر المتوهمون والمولعون بالحيل اللُّغويّة اليوميّة.

إن اللُّغة تنحت الهُوية، أعني الهُوية التي نتعامل بها مع الواقع الضحل، وكُلّ من لا يتقن لُغةً أُحادية عميقة ولا يعرف كيفية الاقتراب من اللُّغات الأُخرى سينحتهُ الواقع الشائن ذاته بشكلٍ مُشوّهٍ ومهول، وبطريقةٍ لا تمت للحكمة المُوجزة والثقافة المطلوبة بصلة.

من المعلوم أن الكاتبة عالية ممدوح تميل إلى من شأنه أن يمنح الحُرية على نحوٍ مطلق بما في ذلك اللُّغات أيضًا، كتبت بالعربيّة الفصحى الخادشة كيلا تجرحها الفرنسيّة تمامًا وتغرس أثرها كثيرًا في الأعماق. إنهُ أسلوب النبلاء والأوفياء للُغتهم الأُم والنستولوجيا المُرافقة لها، وهو الإخلاص لما يُسمّى "اِختدام الصور البلاغيّة". ثمّة مغامرة للُغة لن تنتهي بسهولةٍ إلّا بعد التخلي عنها وعدم الاحتفاء أو الاهتمام بها بالهيئة المُرادة سلفًا.